من المرتقب أن تصدر عن الروائي محمد يسين، مجموعته القصصية الرابعة، الموسومة ب" نداء الهدهد": محكيات عن الطبيعة والثقافة والإنسان.(تتضمن 28 قصة موجهة لليافعين، بناءا على المجالات القيمية الستة المدرسة بالإعدادي).
" أنفاس بريس" تنشر قصة "الأنثى"، إحدى القصص بالمجموعة..
حين ألقيت نظرة حالمة هائمة بعشق المشهد الطبيعي الفتان، خلت أن ما أراه صورة لعروس تنتظر أن تزف إلى إلفها على نغمات الفرح والبهجة والسرور... لكنني حين اقتربت أكثر، وأمعنت النظر، فاجأتني الحقيقة، إذ كان ما أراه، شلال ماء عذب زلال، ينحدر من أعلى الصخر، ويتناثر ماؤه صانعا تلك الهالة البيضاء الفاتنة التي تشبه لباس العروس. صحت واو...، كيف تتحدى الطبيعة أقوى الرسامين، وتبدع هذه اللوحات الفريدة من نوعها، دونما حاجة إلى الفرشاة والألوان، بل وإنهم على وجه التأكيد، هم من تعلم منها هذا الفن بالتقليد والمحاكاة، ولن يستطيعوا أبدا مضاهاتها فيما ترسم وتنحت من أشكال، أو تصدر من أصوات وأنغام!
وأنا ساهم في المشهد سهوم المذهول عن نفسه، المأخوذ بسحر ما يرى، أمعنت التركيز في الجوار، ففوجئت برسم طبيعي آخر على الصخر، وكأنه لشيخ وقور، رأس منحن بوجه بارز الأنف، يكاد يخفي العينين، وقد أُسدل جانب من شعر الرأس عليهما، بدت لي تلك الانحناءة من رأس الرجل انحناءة تقدير وإجلال للأنثى، وفي غمرة الاندهاش، خطرت ببالي هذه الفقرة الجميلة للعبقري غارسيا ماركيز صاحب المائة عام من العزلة:
" كيف تموت المرأة وهي حية". يقول الروائي الكبير:
"رأيت امرأة ميتة يوم أمس، وكانت تتنفس مثلنا، ولكن كيف تموت امرأة؟ وكيف تراها تحتضر؟
تموت إذا فارقت وجهها الابتسامة، إذا لم تعد تهتم بجمالها، إذا لم تتمسك بأيدي أحد ما بقوة، وإن لم تعد تنتظر عناق أحد، وإن اعتلت وجهها ابتسامة ساخرة إذا مر عليها حديث الحب، نعم هكذا تموت امرأة!".
نعم تموت المرأة وهي حية ترزَق، تعلن الحداد داخلها، تعيش مراسم دفنها لوحدها ثم تنهض، ترتّب شكلها، تمسح الكحل السائل تحت عينيها، تعيد وضعه، ثم تخرج للعالم، واقفة بكامل أناقتها، تتنفس وربما تبتسم وتضحك، لكنها ميتة ولا أحد يعلم! متى؟ كيف؟ ولماذا؟"
يا لعظمة الطبيعة كيف أثارت في نفسي هذه التداعيات، التي تحولت إلى شلال من الكلمات والعظات، حقا، يكفي النظر إلى الطبيعة والإنصات إلى صوتها الحر الذي يَهُبًّ تارة كالرياح ويَهمس أخرى كالنسيم، يكفي الإنصات إلى الطبيعة لكي نسمعها تقول بحسم:
- الأنثى هي الأصل والفصل، هي الرحم الخصب الولاد، هي البذرة والتربة والغيمة.
وأنا أحاول -على غرار الكاتب غارسيا ـ التعرف على مكانة المرأة عند أهل بلدي، فاجأني أن أكثر ما ينشر على منصات التواصل الاجتماعي، أو يقال في الأماكن العمومية، كله تبخيس وتنقيص واستصغار للأنثى ولدورها في الحياة ومكانتها في المجتمع، فبعضها يركز على مفاتن الأنثى في الإشهار، والبعض يجعلها مصدر الخرافة والشعوذة والسحر، والبعض لا يرى في جمالها غير البغاء والدعارة والعهر، عدا على من لا يرى فيها خيرا على وجه الإطلاق، فهي مصدر الفتنة، وحاضنة التخلف والجهل، في عُرفِ أولئك.
ثم أين هو موقع الأنثى في مراكز القرار، أين حقها في الأسرة وفي الشارع أو الإدارة؟ وكيف تُحْفَظ كرامتها من التحرش والاغتصاب والتعسف والعنف المادي والرمزي معا؟
وهل سنرتقي يوما إلى أن تصير صورة الأنثى كما يرسمها انسجام عناصر الطبيعة من ماء وصخر، هي نفسها صورتها في أذهاننا وقلوبنا، تثير الدهشة والإعجاب، وتستحق منا كل الاحتفاء والإشادة؟
إلى أن نستطيع الجواب على هذه الأسئلة، كل صورة والأنثى بخير، فالأنثى لا تموت، بل نحن من يقتلها.
" أنفاس بريس" تنشر قصة "الأنثى"، إحدى القصص بالمجموعة..
حين ألقيت نظرة حالمة هائمة بعشق المشهد الطبيعي الفتان، خلت أن ما أراه صورة لعروس تنتظر أن تزف إلى إلفها على نغمات الفرح والبهجة والسرور... لكنني حين اقتربت أكثر، وأمعنت النظر، فاجأتني الحقيقة، إذ كان ما أراه، شلال ماء عذب زلال، ينحدر من أعلى الصخر، ويتناثر ماؤه صانعا تلك الهالة البيضاء الفاتنة التي تشبه لباس العروس. صحت واو...، كيف تتحدى الطبيعة أقوى الرسامين، وتبدع هذه اللوحات الفريدة من نوعها، دونما حاجة إلى الفرشاة والألوان، بل وإنهم على وجه التأكيد، هم من تعلم منها هذا الفن بالتقليد والمحاكاة، ولن يستطيعوا أبدا مضاهاتها فيما ترسم وتنحت من أشكال، أو تصدر من أصوات وأنغام!
وأنا ساهم في المشهد سهوم المذهول عن نفسه، المأخوذ بسحر ما يرى، أمعنت التركيز في الجوار، ففوجئت برسم طبيعي آخر على الصخر، وكأنه لشيخ وقور، رأس منحن بوجه بارز الأنف، يكاد يخفي العينين، وقد أُسدل جانب من شعر الرأس عليهما، بدت لي تلك الانحناءة من رأس الرجل انحناءة تقدير وإجلال للأنثى، وفي غمرة الاندهاش، خطرت ببالي هذه الفقرة الجميلة للعبقري غارسيا ماركيز صاحب المائة عام من العزلة:
" كيف تموت المرأة وهي حية". يقول الروائي الكبير:
"رأيت امرأة ميتة يوم أمس، وكانت تتنفس مثلنا، ولكن كيف تموت امرأة؟ وكيف تراها تحتضر؟
تموت إذا فارقت وجهها الابتسامة، إذا لم تعد تهتم بجمالها، إذا لم تتمسك بأيدي أحد ما بقوة، وإن لم تعد تنتظر عناق أحد، وإن اعتلت وجهها ابتسامة ساخرة إذا مر عليها حديث الحب، نعم هكذا تموت امرأة!".
نعم تموت المرأة وهي حية ترزَق، تعلن الحداد داخلها، تعيش مراسم دفنها لوحدها ثم تنهض، ترتّب شكلها، تمسح الكحل السائل تحت عينيها، تعيد وضعه، ثم تخرج للعالم، واقفة بكامل أناقتها، تتنفس وربما تبتسم وتضحك، لكنها ميتة ولا أحد يعلم! متى؟ كيف؟ ولماذا؟"
يا لعظمة الطبيعة كيف أثارت في نفسي هذه التداعيات، التي تحولت إلى شلال من الكلمات والعظات، حقا، يكفي النظر إلى الطبيعة والإنصات إلى صوتها الحر الذي يَهُبًّ تارة كالرياح ويَهمس أخرى كالنسيم، يكفي الإنصات إلى الطبيعة لكي نسمعها تقول بحسم:
- الأنثى هي الأصل والفصل، هي الرحم الخصب الولاد، هي البذرة والتربة والغيمة.
وأنا أحاول -على غرار الكاتب غارسيا ـ التعرف على مكانة المرأة عند أهل بلدي، فاجأني أن أكثر ما ينشر على منصات التواصل الاجتماعي، أو يقال في الأماكن العمومية، كله تبخيس وتنقيص واستصغار للأنثى ولدورها في الحياة ومكانتها في المجتمع، فبعضها يركز على مفاتن الأنثى في الإشهار، والبعض يجعلها مصدر الخرافة والشعوذة والسحر، والبعض لا يرى في جمالها غير البغاء والدعارة والعهر، عدا على من لا يرى فيها خيرا على وجه الإطلاق، فهي مصدر الفتنة، وحاضنة التخلف والجهل، في عُرفِ أولئك.
ثم أين هو موقع الأنثى في مراكز القرار، أين حقها في الأسرة وفي الشارع أو الإدارة؟ وكيف تُحْفَظ كرامتها من التحرش والاغتصاب والتعسف والعنف المادي والرمزي معا؟
وهل سنرتقي يوما إلى أن تصير صورة الأنثى كما يرسمها انسجام عناصر الطبيعة من ماء وصخر، هي نفسها صورتها في أذهاننا وقلوبنا، تثير الدهشة والإعجاب، وتستحق منا كل الاحتفاء والإشادة؟
إلى أن نستطيع الجواب على هذه الأسئلة، كل صورة والأنثى بخير، فالأنثى لا تموت، بل نحن من يقتلها.