الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الإلاه حبيبي: سؤال العلاقة بين قيم المدرسة وقيم الحياة.. هل تؤهلنا المدرسة لمواجهة تحديات العولمة؟

عبد الإلاه حبيبي: سؤال العلاقة بين قيم المدرسة وقيم الحياة.. هل تؤهلنا المدرسة لمواجهة تحديات العولمة؟

منطق الحياة هو السعي، البحث عن فرص النجاة، اقتناص اللحظات، المغامرة بالعادات الرديئة التي تعلمنا الخوف والحذر والتوجس، الحياة اليوم ليس كالأمس، شعلة متقدة ليل نهار، لا تنام، لا تفتر، محركاتها مشتعلة دوما، معاملها شغالة دون انقطاع، تجارة مستعرة، طائرات تعبر السموات دون توقف، باخرات تشق عباب البحر من المحيط إلى المحيط حيث الزمن هو زمن الأقمار الاصطناعية المتوهجة فوق رؤوسنا، يقظة تراقب سكناتنا، ونحن لازلنا نرى أنفسنا كائنات مصونة من كل اختراق.. الحياة الآن عقارب متسارعة، ثروة تنزلق من بين المغامرة والخسران، يطاردها الشجعان، الذين فهموا منطقها وأتقنوا فن فك شيفراتها، لا يلتفتون إلى الوراء حتى لا يصدمهم الخراب، يفضلون الاستمرار في السير، عيونهم على الاكتشافات التكنولوجية وتطبيقاتها المتعددة، يتسابقون لاحتلال الأسواق، والسيطرة على الأذواق، والمتاجرة في كل شيء، لا يتركون أي هامش لا تعبره السلع والمنتجات، يعينهم في ذلك الإعلان أو علم صناعة الميول والرغبات، في قلوبهم نبض واحد يحفزهم باستمرار على المضي في هذا الاتجاه.. يتعلق الأمر بعشق الثروة، المتعة، السيادة، السيطرة، سحق المنافسين، ضم المستسلمين، واستعمال المهادنين. هذا منطق لا يخضع لأي تقويم أخلاقي، أو تعيير ديني، أو رقابة فوفية، إنه منطق متحلل من كل القيم باستثناء قيمة التسليع والتصنيع والغزو.

المدرسة تعلمنا التريث، الفهم أولا قبل العمل ثانيا، الخوف من الغامض، منح الأسبقية للقيمة الأخلاقية على القيمة الاستعمالية للأشياء، احترام النظام الأخلاقي المتوارث، رفض الحركة المنفلتة من كل تقييم مسبق، تجنب الخوض في المواضيع التي لا تقبل الخضوع لسلطة القواعد العصية على كل تعديل.. في المدرسة نجلس كثيرا، نسمع كثيرا، نشتغل قليلا، نتكلم نادرا، جسدنا محتجز بين الطاولات والسبورة، لا يسمح لنا بالحركة التي هي أصل الحياة، كل شرود هو فعل لا أخلاقي يستحق العقاب، كل سؤال خارج الموضوع هو نشاز، حتى لحظات الاستراحة ليس فيها حياة، نظام ضاغط، رقابة ومراقبة فقط، في أوقات التربية البدنية تغيب كل المستلزمات، ملاعب ضيقة إذا توفرت، لا وجود للماء لغسل الأجساد بعد التمارين، لا مكان لوضع الثياب العادية وارتداء أزياء الرياضة، هناك لعب فقط، قضاء وقت مسلوب من زمن مدرسي ضاغط، هاجس الامتحان هو النشاط المهيمن، دروس في دروس، لا مكان لأنشطة تضخ الحياة في الأجساد البضة، تنعش الروح، ترتقي بالذات إلى عوالم الخيال الذي هو أساس العلم والاختراع، حتى الأندية لا تقدر على فعل الكثير، هي موضوع تنافس وصراع بين الفرقاء، الأطفال غارقون في تلقي الدروس، وحفظ الأفكار، أما الوقت الفارغ فيقضونه في البحث عن وسيلة لتجاوز غول الامتحانات، لا يعرفون الحياة إلا من خلال هواتفهم، يكتشفون القارات والأفكار وهم يتلصصون على الأحداث التي تأتيهم مجانا على شاشات هاته الهواتف، مقيدون بحبال سحرية إلى مدارس العولمة وأجسادهم مقيدة بحبال مهترئة إلى سبورات قديمة تغيب فيها الصور، والمثيرات، والتشكيل وفن الأداء.

هناك مسافة ينبغي البحث عن ملئها بين عالم الحياة وعالم المدرسة لمنح للتلاميذ فرصة ركوب بحار الحياة بعدما يكونوا قد تعلموا فن الإبحار في المدرسة واكتسبوا مناعة ضد الخوف من المغامرة والخروج من حالة العطالة، واستخدام عقولهم بشكل جريء دون التفات يمنة أو يسرة في انتظار أن توافق لهم سلطة ما على ممارسة هذه الجرأة.. الحياة المنتشرة اليوم حولنا لا تسمح لنا بالبقاء داخل أسوار محاطة بأوهام، يتطلب الأمر تغييرا في العقليات، في المناهج، في تدبير الفضاءات، في قيادة العمليات البيداغوجية حتى نؤسس لسيكولوجية جديدة تكون قادرة على ضمان انخراط أطفالنا مستقبلا في التنافس الحضاري القائم...