الجمعة 1 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

الهاشمي نويرة: عندما تتحول "الثورة" إلى تراجيديا كوميدية

الهاشمي نويرة: عندما تتحول "الثورة" إلى تراجيديا كوميدية الهاشمي نويرة

تعلّمنا دروس التاريخ أنّ مِثْلَ ما يجري في تونس يؤكّد أنّ الثورات التي لا تكون مسبوقة بـ«نِزالٍ» فكري ثقافي حقيقي يؤدّي إلى بروز قيم جديدة تمهّد لمنظومة فكرية جديدة التي هي ضرورية لإحداث تغييرات جذرية في بنية المجتمع والدولة، هذه «الثورات» تؤول بطبيعة الأشياء إلى ثورات مضادّة مهمّتها إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. وإنّ التاريخ علّمنا أيضاً أنّ الثورات المضادّة قد تكسب جولة أو جولات، لكنّها لا تكسب حروباً، لأنّ التاريخ يأبى السّيْر لغير الأمام.

وما شهدته وتشهده تونس على مدى عشرية «الرّبيع العربي» يدعو إلى الإحباط واليأس والعجز أمام موجات الردّة المجتمعية والحضارية التي تريد لها بعض الأطراف أن تُصبح أمراً واقعاً وقَدَراً لا مفر منه.

عشر سنوات لم تقدر فيها الحكومات المتعاقبة على تحقيق ما مِنْ شأنه أن يطمئن التونسيين على شروط الحياة الكريمة وعلى مستقبلهم ومستقبل الأجيال القادمة.

وحيث تتسابق الأمم والشّعوب على نبل المعرفة وفي الاستفادة من منافع التطوّرات التكنولوجية المتسارعة، رجعت «الثورة» بتونس إلى الجدل العقيم حول مسائل ومواضيع كنّا نخالها أضحت من ماضٍ ولّى بلا رجعة، وهي مواضيع ومسائل حسمها القانون التونسي بُعيد الاستقلال سنة 1956.

في تونس «مجلّة الأحوال الشخصية» التي وفّرت مساحات حرّية واسعة للمرأة، سبق صدورها إعلان تونس دولة ذات نظام جمهوري بسنة، كانت المجلّة أوّل قوانين دولة الاستقلال في سنة 1956، غير أنه ومنذ صعود «النهضة» إلى الحُكْمِ في أكتوبر 2011 وقع التشكيك في كلّ مكاسب الحداثة، وحاولت فرض النقاش مجدّداً حولها، ولولا تصدّي المجتمع المدني التونسي لهذه المحاولات لنجحت هذه التيّارات الماضوية الهدّامة والمعادية لكلّ مشروع إصلاحي تحديثي، في مساعيها.

«مجلّة الأحوال الشخصية» هي مثال من فيض الأمثلة والشّواهد على تدنّي المستوى المعرفي والسياسي في الفضاءات العمومية، وأصبح من البيّن أنّ تونس تجني في هذه العشر سنوات من عمر ما يُسمّى «الربيع العربي» سياسات «القصف» الممنهج لمنظومة التعليم الذي بدأ بداية ثمانينيات القرن الماضي، وتواصل مع حُكْمِ الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وهي سياسات مهّدت السّبيل لطغيان الخرافة بدل المعرفة والعلم، وأصبحت تونس، التي كانت مضرب الأمثال في نموذجها الحضاري المتحرّر والحداثي، أصبحت مرتعاً للفكر الماضوي الذي وجد الفرصة سانحة لتدمير مظاهر الحداثة في المجتمع والدولة، والكلّ يعرف أنّ هذا كان المطمح الرئيسي لجماعة «الإخوان» الدولية ولذراعها في تونس حركة «النهضة» وتوابعه.

ومن المضحكات المبكيات أنّ الصّراع السّياسي الرئيسي في تونس أصبح اليوم بين من يريد تغيير جوهر النموذج الحضاري للدولة والمجتمع، واستبداله بآخر ماضوي يرجع إلى القرون الوسطى، ومن يريد استحضار سلوكيات وممارسات وخطابات غارقة في الشكليات «السلفية» الماضوية، والتي يُراد بها غايات شعبوية ومصلحية وانتخابية، لكأننا نعيش هذه الأيّام في زمن غير زماننا، وفي عالم غير عالمنا، وفِي أيّام ليست من الدّهر، صراع محموم في تونس بين توجّه سياسي يسعى إلى الحفاظ على السلطة، وإلى فرض رؤيته للمجتمع والدولة، وآخر ذي توجّه شعبوي يسعى إلى كسب ودّ المواطن واستمالته وإقناعه بجدوى خطاب وسلوك، لا يُرى له تأثير في الواقع اليومي لعموم التونسيين.

صراع بين حركة «النهضة» ورئيس الجمهورية، الذي كانت آخر حلقاته، الخلاف الحادّ حول تعديل حكومي محلّ خلاف لا يبدو أنّه سينتهي، وهو صراع يتمّ على أرضية الحكومة، التي هي مطالبة بمواجهة التحدّيات الناجمة عن الأزمة الاقتصادية المستفحلة، ليجد رئيس الحكومة هشام المشيشي في موقع المحارب بالوكالة عن «النهضة».

إنّ الأزمة في أوجها، ومع ذلك لا شيء يدلّل على أن أطراف الصّراع على وعي بالمخاطر المحدقة بالوطن والمواطن.

هذه الأيّام نحن شهود عيان على ممارسات تذكّرنا بأزمنة الغزوات والتراسل بالمطويّات بين رئيس دولة يصرّ على التظاهر بشكليات أصبحت محلّ تندّر بين التونسيين، ورئيس حكومة سلّم مقاليد أمور حكومته إلى حركة «النهضة» التي تريد فرض مصالحها بأيّ طريقة كانت.

كأنّ الذكاء، الذي ميّز التونسيّ على مدى أحقاب، غاب واندثر، ويُخشى لهذا الحال أن يدوم. ألبير أنشتاين قال ذات يوم: «الشيئان اللّذان لا حدود لهما، هما الكون وغباء الإنسان مع أني لست متأكّداً بخصوص الكون»، وقبله قال نابليون بونابرت: «في السياسة، الغباء لا يُعتبر إعاقة»، وأمس دوّن الأستاذ المرجع في تأويل القانون الدستوري سليم اللّغماني وكتب: «في تونس تغيب السياسة، ونحن نعيش الآن تراجيديا كوميدية». تغيب السياسة إذن ويصبح الواقع التونسي من اختصاص علم النفس التحليلي والطبّ النفسي.

عن "البيان" الإماراتية