عرف مجلس النواب مطلع دورة أبريل 2025 نقاشا محتدما حول مسألة حضور ممثلي الحكومة للدراسة والتصويت على مقترحات القوانين؛ سواء على مستوى اللجان الدائمة أو على مستوى الجلسات العامة.
وهكذا؛ فلئن كانت بعض اللجان الدائمة قد أفلحت في القيام في برمجة اجتماعات خصصتها لتقديم ومناقشة بعض مقترحات القوانين بحضور الوزراء المعنيين؛ فإن ما ميز أغلبها هو الركود والجمود؛ وعدم استطاعتها برمجة أية اجتماعات تخصص ل ‹تصفية› رصيد مقترحات القوانين المودعة لديها منذ مطلع الولاية التشريعية الحادية عشرة؛ وذلك بسبب تشبث مكونات المعارضة بالحق في عدم تقديم مقترحاتها التشريعية ما لم تكن الحكومة حاضرة.
وتجدر الإشارة إلى أن الوضع قد ظل هكذا؛ شاهدا على تجميد برمجة دراسة العشرات من مقترحات القوانين على مستوى اللجان الدائمة؛ حيث لم يتم الشروع في دراسة بعضها؛ إلا حينما يكون الوزير المعني أو ممثل الحكومة قد أكد حضوره للمشاركة في الاجتماعات المتعلقة بتقديمها ومناقشتها؛ وغالبا ما كان هذا الحضور لضرورة مسطرية؛ حيث كانت إحالة الحكومة لمشروع قانون في موضوع ما؛ تصادف أن اللجنة الدائمة المعنية تكون قد توصلت -قبله- بعدة مقترحات قوانين في نفس الموضوع؛ مما يوجب برمجة هذه الأخيرة بالأسبقية؛ التزاما بمسطرة التشريع؛ التي تقتضي أن تعطى الأسبقية في الدراسة للنص التشريعي الذي أودع أولا؛ في حالة إيداع مشاريع ومقترحات قوانين ذات موضوع واحد .
وجدير بالذكر؛ أن مكونات المعارضة ما فتئت تثير؛ من خلال تناول الكلمة في إطار نقط النظام بداية الكثير من الجلسات العامة؛ إشكالية مصادرة المبادرة التشريعية لأعضاء البرلمان؛ من خلال امتناع أعضاء الحكومة عن الحضور للاجتماعات التي تخصصها اللجان الدائمة لتقديم ومناقشة مقترحات القوانين؛ إلى أن حصل التوافق على مستوى ندوة الرؤساء؛ مستهل دورة أبريل 2025؛ على حل وسط؛ يتمثل في إمكانية برمجة دراسة تلك المقترحات في اجتماعات لمختلف ا للجان الدائمة قصد تقديمها ومناقشتها ولو في غياب ممثلي الحكومة؛ على أساس وجوب حضور الحكومة خلال الجلسات العامة التي تخصص للدراسة والتصويت على تلك المقترحات؛ سيما أن رئاسة المجلس كانت قد أثارت أن حضور أعضاء الحكومة للاجتماعات المخصصة لدراسة مقترحات القوانين يكون على سبيل التخيير؛ استنادا إلى قرار المحكمة الدستورية عدد 21/115.
وفي هذا الإطار عمل رؤساء اللجان الدائمة ومكاتبها؛ في ظل انخراط إيجابي ملحوظ من مكونات المعارضة خاصة؛ على برمجة اجتماعاتها ل ‹تصفية› رصيد مقترحات القوانين المودعة لديها منذ بداية الولاية التشريعية الحالية.
وجدير بالذكر أن الحكومة قد ظلت وفية لامتناعها عن الحضور لتلك الاجتماعات إلا اضطرارا؛ للأسباب التي تمت الإشارة إليها آنفا، إذ كانت تكتفي -فقط- بإرسال رفضها عبر رسالة مكتوبة إلى المجلس، دون بيان أسباب ذاك الرفض ولا تعليله !!؛ ولقد ترتب عن هذا السلوك قيام فرق الأغلبية بسحب كل مقترحاتها التي تتم برمجتها على مستوى اللجان أو حتى قبل ذلك أحيانا، مقابل تباين مواقف المعارضة بحسب اللجان، وبحسب مواضيع مقترحاتها التشريعية، مع التأكيد على أن المعارضة في العموم تتشبث بمقترحاتها؛ بالرغم من أن دراستها على مستوى اللجان الدائمة تميزت، ليس فقط بإمعان الحكومة في امتناعها عن الحضور والحوار مع أعضاء البرلمان في شأن تلك المقترحات، وإنما اختار أعضاء تلك اللجان المنتمون للأغلبية -خاصة- أن يمتنعوا -بدورهم- عن المناقشة (العامة والتفصيلية) رغم حضورهم جسديا؛ بالرغم من أهمية تلك القضايا التي تعالجها تلك المقترحات وملحاحية إصدارها؛ بشهادة كثير من نواب الأغلبية أنفسهم !!
وجدير بالذكر أيضا؛ أنه في الوقت الذي تجاوزت فيه المعارضة موقفها؛ وفاء بالتزامها بالاتفاق الحاصل على مستوى ندوة الرؤساء المشار إليه أعلاه، وانخرطت في تقديم مقترحاتها التشريعية من دون حضور أي ممثل للحكومة؛ لأنها كانت تنتظر أن يستدرك ذلك على مستوى الجلسات العامة، غير أن الذي جرى في أول جلسة عامة؛ خصصت للدراسة والتصويت على مقترحات القوانين التي استكملت دراستها على مستوى اللجان الدائمة المعنية، كان مخيبا لآمال مكونات المعارضة وكثير من المتتبعين.
ذلك أن مجلس النواب عقد جلستين تشريعيتين عامتين متتاليتين؛ مباشرة بعد الجلسة الأسبوعية للأسئلة الشفهية يوم الاثنين 2 يونيو 2025؛ خصصت أولاهما للدراسة والتصويت على مشروع قانون تولى تقديمه -نيابة عن الحكومة- وإبداء رأيها في التعديلات المقترحة عليه السيد عمر احجيرة كاتب الدولة لدى وزير الصناعة والتجارة المكلف بالتجارة الخارجية؛ تلتها جلسة تشريعية عامة ثانية؛ خصصت للدراسة والتصويت على عدد من مقترحات القوانين؛ كلها سبق أن تقدمت بها المعارضة، وحضرها نيابة عن الحكومة نفس العضو (السيد عمر احجيرة)؛ في غياب تام لأي وزير آخر؛ بمن فيهم السيد الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان؛ غير أن حضور السيد كاتب الدولة -خلال الجلسة المخصصة للدراسة والتصويت على مقترحات القوانين- أضحى حضورا سلبيا لم يتجاوز الحضور الجسدي؛ إذ لم يتناول الكلمة ولو لمجرد النطق بأن ‹الحكومة ترفض› مقترحات القوانين التي تم تقديمها؛ مما أثار استياء الجميع، وترتب عنه نقاش من خلال نقط نظام متعددة؛ قرر على إثرها رئيس المجلس الذي كان يترأس هذه الجلسة رفعها، وبناء عليه تم تأجيل الدراسة والتصويت على أربعة مقترحات قوانين؛ من تقديم المجموعة النيابية للعدالة والتنمية، كانت ضمن جدول أعمال الجلسة المشار إليها.
ويمكننا القول إجمالا إن امتناع حضور الحكومة؛ بل امتناعها عن مناقشة مقترحات القوانين التي يتقدم بها أعضاء المجلس؛ وخاصة تلك التي تتمسك بها المعارضة؛ مخالف للدستور وللقانون؛ وإخلال بمتطلبات النقاش الديموقراطي؛ فضلا عما يمثله من عجز سياسي للحكومة؛ ويمكننا تفصيل ذلك كما يلي:
في البدء، لا بد من الإشارة إلى أن امتناع حضور الحكومة للجلسات المخصصة لمناقشة مقترحات القوانين، سلوك قد لازمَ الحكومات تاريخيا (على مدى خمسين سنة من تاريخ العمل البرلماني لم يكن البرلمان يوافق إلا على أقل من مقترحي قانونين في السنة).
ولئن كان هذا السلوك، خلال مرحلة ما قبل دستور 2011؛ يجد تفسيره في الإطار الدستوري والسياسي الذي ميز تلك المرحلة، فإنه لم يعد مستساغا بعد إقرار هذا الأخير.
فأما خلال مرحلة ما قبل إقرار دستور 2011؛ فإن أغلب الفاعلين السياسيين ظلوا يعتبرون أن التشريع كاد يكون مجالا محفوظا للملك؛ وذلك بالنظر -من جهة- إلى أن التداول في مشاريع القوانين قبل إحالتها على البرلمان كانت من اختصاص المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك؛ كما أن حق الوزير الأول في التقدم باقتراح القوانين، كان مقيدا بضرورة التداول بشأنه بالمجلس الوزاري، قبل إيداعه بمكتبي مجلسي البرلمان؛ ومن جهة أخرى؛ بالنظر إلى أن الملك كان يبادر إلى إقرار قوانين وإصدارها، بمقتضى ظهائر، بشكل مباشر، ومن دون أن يعرضها لا على المجلس الوزاري ولا على البرلمان قصد الدراسة والتصويت، استنادا إلى الفصل 19 من الدستور؛ وبالنظر -من جهة ثالثة- إلى أن الوثيقة الدستورية لسنة 1996 وما قبلها كانت تنص على أن البرلمان يختص بالتصويت على القوانين؛ ولا يمارس للسلطة التشريعية كما ينص على ذلك دستور 2011.
وهكذا، وبالرغم من أن كل الدساتير المغربية ظلت تكفل للوزير الأول ولأعضاء البرلمان على السواء حق التقدم باقتراح القوانين؛ فإن مختلف الفاعلين (الحكومة/ أحزاب...) ظلوا يؤولون فصول الدستور المتعلقة باختصاص الملك في المجال التشريعي، على أنها تجعل منه مجالا محفوظا للمؤسسة الملكية؛ كما يرتبون على ذلك موقفا مفاده أن الاحترام الواجب للملك، يتطلب عدم المبادرة إلى تقديم مقترحات قوانين من الأصل، كما تقتضي رفضها إذا ما تم تقديمها؛ وهو ما كان من تداعياته تكريس وضع خاص للأمانة العامة للحكومة؛ جعل منها صاحبة الكلمة العليا (الحل والعقد) في كل ماله علاقة بالتشريع داخل الجهاز الحكومي؛ لأن هناك من ظل يعتبرها ممثل الملك أو صوته داخل الحكومة.....
وهكذا؛ فإذا كان ظاهر المقتضيات الدستورية المشار إليها يوحي بأن هناك تكافؤا ومساواة بين كل من البرلمان وبين الحكومة في امتلاك المبادرة التشريعية، إلا أن واقع الممارسة العملية يؤكد أن تلك المساواة ليست سوى مساواة ظاهرية، كما يؤكد هذا الواقع تفوق المؤسسة الحكومية على البرلمان في هذا المجال، وذلك لجملة اعتبارات؛ ناتجة -في جانب منها- عن حيازة الحكومة عدة وسائل تجعلها تتدخل في أعمال البرلمان لدرجة توجيهه والتحكم فيه، كما اكتسبت الحكومة -وفقا لكل الدساتير- ونتيجة للتطور التاريخي الذي شهدته، إضافة إلى آثار العقلنة البرلمانية؛ وكذا نتيجة معطيات الظرفية السياسية والانتخابية- "تقنيات عديدة جعلتها تتقاسم السلطة التشريعية مع البرلمان وأحيانا تحد منها"، بل وجعلت منها المشرع الأصلي في مقابل تقليص سلطات البرلمان وتحويله إلى مشرع استثنائي؛ لدرجة أن مقترحات القوانين لم تكن تجد سبيلها إلى الدراسة والتصويت؛ لا على مستوى اللجان الدائمة ولا على مستوى الجلسات العامة؛ مما جعل العديدين يسِمون البرلمان بأنه قد تحول إلى مجرد غرفة تسجيل لمشاريع القوانين التي تتقدم بها الحكومة.
في هذه الإطار؛ وحرصا منه على معالجة هذا الوضع المخل بمتطلبات التعاون والتوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية؛ فقد نص دستور 2011 صراحة على وجوب تخصيص يوم واحد على الأقل في الشهر لدراسة مقترحات القوانين، ومن بينها تلك المقدمة من قبل المعارضة (الفصل 82). ولعل مقصده كان هو تحصين حق أعضاء البرلمان كافةً، في المبادرة إلى تقديم مقترحات قوانين؛ خاصة إذا كان مصدرها من المعارضة، وبالتالي الحيلولة دون هيمنة الحكومة على التشريع واستفرادها به؛ سعيا إلى توفير مزيد من مقومات التوازن بين الحكومة والبرلمان في ممارسة هذا الحق.
وانسجاما مع هذا التحول الدستوري الهام؛ ومن أجل تمكين الحكومة من مسايرة المبادرة التشريعية لأعضاء البرلمان؛ فقد تم إلزام رئاسة المجلس بإحالة مقترحات القوانين المقدمة من لدن النائبات والنواب إلى الحكومة عشرة أيام قبل إحالتها على اللجان الدائمة المختصة؛ فلا يمكن للجنة الدائمة المعنية برمجة دراستها إلا بعد انصرام هذا الأجل؛ على أن يحيط رئيس المجلس الحكومة علما بتاريخ وساعة المناقشة في اللجنة؛ وفي المقابل؛ وحتى لا تتأخر الحكومة في إبداء رأيها في شأن مختلف مقترحات القوانين التي تتوصل بها أولا بأول؛ فقد تقرر؛ بموجب المادة 23 من القانون التنظيمي 65.13 المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها، إلزام الحكومة بتخصيص اجتماع كل شهر على الأقل؛ لمدارسة مقترحات القوانين التي يتقدم بها أعضاء البرلمان من الأغلبية والمعارضة، وتحديد موقف الحكومة بشأنها.
(يتبع)
عبد الصمد حيكر/ باحث في القانون البرلماني؛ ونائب رئيس المجموعة النيابية للعدالة والتنمية