ما زال الفصل 490 من القانون الجنائي يخلق حالة من الجدل اشتدت حرارتها قبل أيام، عقب انفجار قضية ما بات يعرف بفتاة تطــوان، وهو جدل قد نتقبله من منطلقات حرية إبداء الرأي والتعبير والتفاعل مع القضايا المجتمعية، ولاعتبارات واقعية مرتبطة بالقواعد القانونية ومدى نجاعتها وقدرتها على مواكبة التحولات المجتمعية والانسجام معها، بالشكل الذي يضبط سلوكات الأفراد والجماعات، في إطار من التوازن بين الواقع والقانون وبين الحريات الشخصية والقيم المجتمعية العاكسة للمشترك الديني والثقافي والهوياتي.
الفصل 490 كشف عن سوءة المرجعيات وأبرز عنوة عورة المواقف المتضاربة التي تتباين بين من يريد إحداث ثورة حقيقية على هذا الفصل، ومن خلاله على كل الفصول الجنائية التي تلامس قضايا الحريات الفردية والعلاقات الخارجة عن مؤسسة الزواج، بشكل يدفع في اتجاه التطبيع مع الحريات والعلاقات الجنسية التي تدخل في خانة "الرضائية"، وبين من يرى أن أي اعتداء على الفصل المذكور على وجه التحديد، لن يكون إلا انتهاكا لضوابط الدين وقواعد القيم والأخلاق، وتطبيعا مع الفساد والانحلال الأخلاقي ومساسا بالأنساب، بشكل قد يقود المجتمع حسب تصورهم، إلى نوع من الارتباك والتيهان على مستوى الهوية والقيم والأخلاق.
وليس المجال هنا للتموقع في صف المؤيدين أو الاصطفاف في معسكر الرافضين والمتحفظين، أو المجازفة في وضع الفصل المثير للجدل تحت المجهر لتشخيص مدى قدرته على استيعاب التحولات المجتمعية وما أفرزته وتفرزه من ممارسات وسلوكات، ولن ننخرط في أية نقاشات "حماسية" أو "مناسباتية" بخصوص الجدل القائم حول عدد من الفصول الجنائية وفي طليعتها الفصل 490، مقتنعين حسب تصورنا الشخصي، أن هذا الجدل يبقى خارج النص على الأقل في الوقت الراهن، لأن الجدل الحقيقي يجب أن ينصب حول قضايا وملفات "ذات أولوية" لم تعد تتحمل الانتظار ترتبط أشد الارتباط بواقع المغاربة ومستقبلهم.
قضايا وملفات يمكن الإشارة إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر، من قبيل الفقر والأمية وتشغيل الأطفال والهدر المدرسي والجامعي وجنوح الأحداث وأطفال الشارع والأشخاص في وضعية صعبة، وأزمة المنظومة التربوية وتمدد القطاع غير المهيكل وانتشار الجريمة وضعف ومحدودية الخدمات والمرافق العمومية والبنيات التحتية، واتساع رقعة الفوارق الاجتماعية والتباينات المجالية، والرشوة واستغلال النفوذ والريع، وتراجع أدوار مؤسسات التنشئة الاجتماعية من أسرة ومدرسة ودور الشباب والثقافة وأحزاب سياسية وإعلام، وانتشار ثقافة العبث والتفاهة والسخافة والأنانية المفرطة والمصالح، وتدني منسوب المسؤولية والمواطنة وانعدام ربط المسؤولية بالمحاسبة وانتهاك حرمات القانون وتواضع المشهد السياسي... إلخ، ونرى أن قضايا وملفات من هذا القبيل، هي التي تستحق الجدل والدفاع والترافع، لأنها سبيلنا الأوحد لتنمية العقول والرقي بمستوى التربية والأذواق وإدراك التنمية الشاملة، ولما ننجح في كسب هذه الرهانات، حينها يحق لنا مناقشة ما يؤطر سلوكاتنا الفردية والجماعية من قوانين، في إطار من الاحترام والالتزام والتبصر.
وفي جميــع الحالات، لا يسعنا إلا القول، ليست مشكلتنا في القانون في حد ذاته، ولكن في قدرتنا على خرق القانون، وإذا كان الفصل 490 قد وقع في قفص الاتهام، فالحقيقة التي لا يمكن قطعا إخفاؤها أو تجاهلها، هي أننا شعب يسكننا العبث والتهور وأحيانا الفوضى، ندوس بأقدامنا على القوانين بدون حرج مهما كانت جودتها، ننتهكها تارة ونتحايل عليها تارة أخــرى لإرضاء ما بات يسيطر علينا من مصالح وأنانية، وحتى من يترافع سعيا وراء إسقاط الفصل المثير للجدل، فيكاد لا يسمع له صوت في قضايا مجتمعية أخـرى، ومنها ما تم تسجيله في الأشهر الأخيرة من جرائم مروعة كان ضحيتها جملة من الأطفال الأبرياء الذين انتهت حياتهم على وقع الاختطاف والاغتصاب والقتل البشـع، وما حدث ويحدث هنا وهناك من جرائم مروعة تقوي الإحساس بانعدام الأمن كما حدث في حي الرحمة بسلا قبل أيام، دون إغفال الفاجعة التي حلت بمدنية طنجة والتي أودت بحياة شهيدات وشهداء "لقمـة العيش"... إلخ.
وعليه، إذا كان لا مناص من الجدل وإذا كان لابديل عن الدفاع والترافع، فمن باب الأولوية القصوى أن يتم توجيه البوصلة نحو مختلف الأعطاب التنموية التي لازالت تنخر جسد المجتمع وتكرس المزيد من التفاوتات الاجتماعية والتباينات المجالية، وتقــوي الإحساس بانعدام العدالة والمساواة الاجتماعية، ويتم الانتباه إلى ما وصلت إليه القيم والأخلاق من تراجع وإفــلاس، في مجتمع متناقض باتت تسيطر عليه قيم الأنانية المفرطة والمصالح العمياء، والجشع والطمع والاستخفاف بالمسؤوليات والفساد والريع والانحلال بكل تعبيراته ..
مجتمع ما زالت تخرب فيه الحافلات الجديدة والتجهيزات ذات المنفعة العامة، وترمى فيه الأزبال في الأحياء والشوارع وترتفع فيه جرعات الحقوق على حساب الواجب، وتجول فيه الكلاب مثنى وثلاث ورباع في الشوارع والمدارات، وتستسلم فيه قنوات الصرف الصحي أمام سلطة الأمطار وتئن فيه الطرقات من ورم الحفر وجائحة البؤس والنسيان... هو مجتمع لا يحتاج إلى من يترافع دفاعا عن فصل جنائي لا يقدم ولا يؤخر، هو مجتمـع يحتاج إلى ضمائر حية وسواعد بيضاء وقلوب رحيمة وعقليات مفعمة بالمسؤولية، تبني الوطن بدون جدل أو لغط أو عناد أو مصالح أو حسابات ضيقة..
لما نتحمل مسؤولياتنا في تربية أبنائنا.. لما نعرف كيف نقطع الطريق ونلتزم بقواعد السير والجولان بدون رجل المرور.. لما نعرف كيف نحرص على نظافة أحيائنا وشوارعنا ودروبنا كما نحرص على نظافة بيوتنا.. لما نتعلم أبجديات النظام والالتزام والانضباط.. لما نتنازل عن كبريائنا وأنانيتنا.. لما نتعلم كيف نركب في الحافلات والقطارات.. لما نتعلم كيف نحترم بعضنا البعض.. لما نتعلم كيف نتعامل مع صناديق الاقتراع وكيف نختار مترشحينا.. لما نتعلم كيف نحتج برقي وكيف نطالب بالحقوق دون المســاس بحقوق الآخرين.. لما نتحمل مسؤولياتنا الفردية والجماعية في الارتقاء بمستوى التربية والتعليم والتنمية والثقافة والقيم والأذواق.. حينما نغلب كفة المصلحة العامة على حساب المصالح الشخصية الضيقة.. حينما نفهم أن حرياتنا تنتهي عندما نمس بحريات الآخرين.. حينها يحق لنا محاصرة "الفصل 490"ومحاصرة كل القوانين التي تقيد حرياتنا وتمس بجوهر إنسانيتنا.. غير هذا، فأي جدل أو نقـاش حول الفصل المثير للجدل، لن يكون إلا "تغريدة خارج السرب" و"جدلا خارج النص"...