جاء في بلاغ الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، بمناسبة ترأس الملك محمد السادس، الخميس الماضي بالقصر الملكي بفاس، مجلسا وزاريا، خصص للمصادقة على عدد من مشاريع النصوص القانونية، ومجموعة من الاتفاقيات الدولية، جملة منها تخص أفق التحضير للانتخابات العامة المقبلة ببلادنا.
وبهذه المناسبة، صادق المجلس الوزاري على أربعة مشاريع قوانين تنظيمية مؤطرة لهذه الاستحقاقات، تهدف بصفة عامة، إلى تطوير قواعد النظام الانتخابي، وتقوية الضمانات الانتخابية، وضبط قواعد استفادة الأحزاب السياسية من الدعم المالي، وتخليق العمليات الانتخابية، وتعزيز الشفافية المالية للحملات الانتخابية للمرشحين.
ومن بين مشاريع القوانين التنظيمية التي تحدث عنها البلاغ، "مشروع قانون تنظيمي بتغيير القانون التنظيمي المتعلق بالأحزاب السياسية : ويروم تفعيل التعليمات الملكية السامية بخصوص الرفع من مبلغ الدعم العمومي الممنوح للأحزاب، قصد مواكبتها، وتحفيزها على تجديد أساليب عملها، بما يساهم في الرفع من مستوى الأداء الحزبي ومن جودة التشريعات والسياسات العمومية، مع تخصيص جزء من الدعم العمومي لفائدة الكفاءات التي توظفها في مجالات التفكير والتحليل والابتكار".
فقبل كل شيء، نصفق بحرارة لهذا المشروع، لكن:
من دون لف أو دوران، ومن دون الحديث عن أناس وأماكن وأحداث عشناها في تجاربنا السابقة، ولا حتى إضافة أشياء جديدة، أو أطروحة تسعى إلى تفسير "الواقع" بإحالته على حكم متعال وذاتي، هي فقط لحظة تحول في مسارنا النضالي المتواضع، تحتوي على آهات نابعة من قلب تفاصيل غريبة، تحولت إلى قصة طويلة، تحتوي على تفاصيل لن نذكر منها إلا المفيد.
بداية لا بد من وضع المسافة بين الرواية والرؤية، وبين الخطاب المفهم والخطاب المتخيل، وبين ادعاء الكمال وعدم الاعتراف بالتكامل، لنصل إلى رفع اللبس عن طبيعة الأزمة الموضوعية والذاتية التي باتت تعيشها الأحزاب السياسية في وطننا العزيز، والتي لا زالت في غالبيتها تنتج إعادة إنتاج نفس الأفكار القديمة، ونفس الممارسات السياسية والتنظيمية والآليات الرمزية البالية، ونفس المفاهيم التقليدية، ونفس الأسلوب المبتذل في التناظر والتموقع في حقل السلطة، وفي حلبة الصراع من دون مشروع مجتمعي أو بدائل.
هكذا ومنذ انتخابات العقد الأخير، وقبله، تحولت الأحزاب السياسية المغربية إلى أحزاب انتخابية بامتياز بشكل لم يسبق له مثيل، في زمن العولمة، والتقدم التكنولوجي، والثورة المعلوماتية والرقمية، والاعتراف الكوني بحقوق المواطنة، وفي زمن سقوط الجدران، وتعدد الثقافات، والمقاربات ونسبية الحقيقة...
تحولت هذه الأحزاب السياسية إلى نسب مئوية متخصصة في أنواع وأشكال التصويت، وإلى أرقام عددية لتصدر المراتب، وإلى صراعات حول مناصب الفرق المنتخبة والاستشارية والنيابية، بدل الرؤية السياسية الحزبية والتنظيمية.
والكل يعلم أن الناس اليوم لم تعد تثق إلا في نفسها، بدل الثقة في الأحزاب والمؤسسات. وهذه معضلة كبيرة. وهذا ما اعترف به ملك البلاد محمد السادس، وصرح به علانية في أكثر من مناسبة. ورغم ذلك تستمر الأحزاب السياسية متشبثة بزعمائها و بمواقعها، متجاهلة أعطابها التنظيمية، وثغراتها التدبيرية التي باتت تقتل كل يوم روح المبادرة والخلق والإبداع داخل صفوفها، وتقمع كفاءاتها التي أظهرت عن قدراتها الانجابية في محطات متعددة، وتستمر متمادية في حشد المهزومين وتلميع وجوههم، ضدا على الطلائع الحاملة لنفس جديد، نابع من العمق المجتمعي، ومن العمل اليومي الطموح الذي لا يحتاج للتوطئة، ولا للأعيان القدامى منهم و الجدد ( من استفادوا من الريع السياسي، ومن عدم أداء الضرائب، ومن وضع المال خارج الدورة الاقتصادية "لطيزوريزاسيون")، بل للكفاءة والقدرة على الإنجاز، والتخطيط ووضع أحجار الأساس قبل أي بناء.
ومع أزمة إنتاج وصناعة المفاهيم والبرامج الاجتماعية، انشغلت هذه الأحزاب بالصراعات الهامشية، وبحرب المواقع، والتسلق الطبقي، بدل طرح البدائل لبناء مغرب المستقبل وإنقاذ أرواح الحاشية السفلى في مجتمعنا، والتعامل بجرأة مع نبض الشارع وهموم الشعب والجماهير الشعبية وطموحاتها.
هذا الإحساس وهذا الشعور، نريد أن نحوله إلى إتحاد وقوة شعبية وطنية، ضد إهانة الأحزاب السياسية للمجتمع، وضد ما تمارسه في حق الأطر والكفاءات والشباب والنساء، وضد أهالينا في المغرب العميق، مغرب الحاشية السفلى، مغرب الجبل والواحات والسهوب والسهول وضواحي المدن الكبرى والمتوسطة، الذي ينتفض كل يوم ضد المركز وحكومته ونخبه ومؤسساته وأحزابه ومنظماته.
إهانات ترمز للهزيمة في حرب باردة بين الأحزاب السياسية والشعب، بدون رصاص ولا قناص، تشرعن سياسية الموت البطيء بسبب التحكم في وسائل الإعلام والتواصل، وتقتل الأمل المنشود في مغرب المستقبل.
إن الوضع الحالي لم يعد يسمح لنا بالصمت، فنحن لم تلدنا أمهاتنا في خرق وأقمطة بيضاء، لم نرث لا رأسمالا رمزيا ولا ماديا ثمينا، ولا نملك سوى فلذات أكبادنا وحب الوطن.
في العام 2011، شهد المغرب ميلاد عدة حركات اجتماعية ساخطة على الوضع الاقتصادي، وعلى السياسات التي تتبعها الحكومات، والتي أظهرت بالملموس التخلف الفضيع للأحزاب ومأساوية الفعل السياسي ببلادنا، وخاصة من لدن "يسار-النيو بولتيك" ، الذي حاول الركوب على هذه الحركات مستغلا غضب شبابها، من دون أن يحدد دوره في معركة "شباب بلا مستقبل"، وحماية صرخات الاستغاثة من الظلامية والنكوصية، بدل رفع شعارات ملغومة لتصفية الحسابات القديمة مع الدولة ومع الأشخاص والعائلات.
ومنذ ذلك الحين دخلت البلاد في نفق مظلم بسبب السياسات الظالمة التي تتبعها الحكومة، بالإضافة إلى حكرة الأطر والكفاءات والشباب والنساء، وانخفاض الانتماء الحزبي إلى درجة ما قبل الصفر.
وبالرجوع إلى جذور الأزمة، يمكن القول: إن الأحزاب السياسية أصبحت اليوم جزءا من المشكل، وليست جزءا من الحل، في غياب المواثيق الاجتماعية والحوار المجتمعي، ومواجهة الاستئثار بالنفوذ والثروة، وعدم قدرتها على مواجهة الخلايا والشبكات المنغلقة، و أبناء البورجوازية اللقيطة المتعجرفة.
ومن جهة أخرى، يجب كذلك الإقرار بهيمنة الأقلية على النظام الحزبي المغربي، وهي المسيطرة على دواليب التنظيمات طوال عشرات السنين، وأعادت إنتاجها حتى الأحزاب الناشئة، الشبه ليبرالية منها واليسارية النيوليبرالية واليمينية والمحافظة. وظلت هذه الأقلية تسيطر على الأحزاب، وتضع من خالفها خارج بيتها، تحت شعار "أرض الله واسعة"!
إن المغاربة اليوم. لم يعودوا يشعرون بالثقة في القادة السياسيين التقليديين، كما لا يشعرون بأن هذه الأحزاب تمثلهم، والدليل الملموس هو انخفاض أعداد المنتسبين إليهم والى النقابات العمالية وإلى الجمعيات بكل اختصاصها.
ومما زاد الوضع غموضا وانتكاسة، هو توافق هذه الأحزاب مع السياسات النيوليبرالية الجديدة، وإقامة تحالفات مشبوهة بدون طعم ولا مذاق بين أحزاب وتنظيمات تحولت إلى شركات كبرى، وأخرى تستغل الدين، وأخرى تستغل حقوق الإنسان وتتاجر في تاريخ الايدولوجيا وتضحيات الشهداء والمعتقلين والمناضلين التقدميين..وهو ما سيؤدي إلى فقدان الثقة في النظام الحزبي والقادة السياسيين، والديمقراطية التمثيلية، خاصة مع صعود التطرف والقوى النكوصية والشعبوية و"الريعيون الجدد"، وارتباطات أحزاب سياسية قديمة وتاريخية بأعيان الانتخابات، وتخليها عن ماضيها المشرق في العديد من المحطات.
وعلى ضوء هذا الواقع الحزبي المؤلم، يمكن فهم ظاهرة العزوف السياسي في جزء منها، ويمكن فهم لماذا لم تعد الجماهير الشعبية تنخرط في فضاءات العملية السياسية لتتبع الشأن العام عن طريق الأحزاب السياسية، بل عن طريق الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والوقفات الاحتجاجية والمسيرات الشعبية.
لقد انسحبت الأحزاب السياسية من الميدان وتركت الساحة فارغة من دون وسائط، والمواطنات والمواطنين يواجهون السياسات الإقصائية التي تنهجها الحكومة كاستمرارية للحكومات السابقة، نتيجة التفاوتات الاجتماعية، وهذا ما يسائلنا جميعا، ويسائل الرأي العام الذي لم يعد يفهم أي شيء عن دور هذه الأحزاب، وعن إستراتيجيات قادتها السياسيين.
الناس يبحثون اليوم عن من يمثل الأطر والشباب والنساء ومغاربة الحاشية السفلى، للقطع مع كل الممارسات التي جعلت هذه الفئات الاجتماعية دائما ماسكة للذيل، ومحرومة من وسائل الإعلام ومن الهيئات الأيديولوجية المركزية التي تشكل البناء الذهني وتشكل القيم المشتركة للناس.
والى جانب ذلك، هناك الدين - الأسرة والمدرسة، لكن الأدوات الإعلامية تظل محتكرة في يد النخب المركزية ومؤسساتها الإدارية والسياسية والنقابية، ومن خلالها يتم التعتيم على الحركات الاجتماعية المناهضة للتفاوت الاجتماعي، والتفقير والتهميش بكل أشكاله.
إن النخبة المسيطرة داخل الأحزاب، أصبحت عائقا حقيقيا أمام التعبيرات الجديدة المناضلة، والمواطنة، والحاملة لرؤى متقاطعة من أجل مغرب المستقبل.
الناس اليوم ينتظرون حلولا لمشاكلهم وللقضايا الاجتماعية التي يعتبرونها أيديولوجيتهم الحقيقة والواقعية، ويريدون التعبير على ذلك في نقاش عمومي، وكلما كان الاختلاف حول القضايا، يجب اللجوء إلى التصويت والاستفتاء، واستخدام حلقات النقاش في كل تنظيم أو لقاء، بعيدا عن الإقصاء والتنابز.
لقد آن الأوان لقول الحقيقة في وجه الأحزاب السياسية، حول ما أصبحت تورثه من مشاكل وخيبات أمل، وتهميش للمواطنات والمواطنين الذين لم يعد أمامهم سوى خلق حلقات النقاش في الفضاءات العمومية والانخراط في مجالس وهيئات الدفاع الذاتي، وتشكيل برلمانيات القرى والمدن والأحياء.
الناس يخاطبون رموز الدولة مباشرة، ويطلبون تدخلهم الشخصي، ولم نعرف من حزب، أو هيئة سياسية، يقترح نفسه اليوم لطرح هذا الموضوع الخطير الذي يمس بوجوده، ومهمته التي يحددها له الفصل السابع من دستور المملكة، والقائم على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، والمساهمة في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية.
فأين نحن من تفعيل الفصل السابع من دستور المملكة؟
لم يعد الناس يؤمنون بالشائعات التي تطلقها الأحزاب في الصالونات والمقاهي والأسواق، أو تلك التي تروج لها النخبة الحاكمة في المؤسسات والإدارات، من خلال خلق لغة التخوين والتشكيك وزرع الرعب والذعر في وسط الطبقة المتوسطة، وجبرها بكل الوسائل على الابتعاد عن السياسة. وفي حالات عديدة، إغراءها بالامتيازات لضرب شجاعتها، ومنعها من أي اقتراب لها من الحركات الاجتماعية.
المغاربة اليوم يريدون لغة بديلة، وقوة بديلة لبناء ديمقراطية حقيقية، وجبهة حداثية ديمقراطية كبيرة تتسع لكل الشرفاء، تخرجهم من الظلمات إلى النور، ويريدون برامج تجعل من المواطن المغربي فاعلا سياسيا أساسيا، ويريدون تحريرهم من النخبة الفاسدة، وتمكينهم من حرية الاختيار في إطار العدالة الاجتماعية والضريبية والمجالية واللغوية، والمساواة.
أخيرا، المغاربة لا يريدون أحزاب سياسية تشبه العلامة التجارية، ومن يقصدها يعتقد أن كل شيء يمكن أن يباع ويشترى. المغاربة يريدون صناعة مغرب المستقبل، يريدون ائتلافا حداثيا ديمقراطيا، مبدعا، ومنتجا لآليات التقارب مع القادرات والقادرين على ربط الحقوق بالواجبات، وعلى ربط المسؤولية بالمحاسبة والعقاب. ائتلاف يخلص الناس من الخوف والتبعية، ويقربنا من أخواتنا وإخواننا في القوات الشعبية المواطنة والمناضلة أينما كانوا، بعيدا عن منطق الزاوية، والقبلية، والعشيرة والعائلة.
نتمنى صادقين أن تخصص الأحزاب السياسية ميزانية مالية من المال العام الذي ستحصل عليه، من أجل فتح مثل هذا النقاش العمومي.
المريزق المصطفى ( مؤسس الطريق الرابع)