الثلاثاء 23 إبريل 2024
فن وثقافة

ذاكرة الوطني سي محمد بوراس من "سفر في زمن المقاومة والنضال" (4) الحلقة الأخيرة

ذاكرة الوطني سي محمد بوراس من "سفر في زمن المقاومة والنضال"  (4) الحلقة الأخيرة مصطفى المتوكل(يمينا) وسي محمد بوراس الفيجيجي (يسارا)

في هذه الحلقات من سيرة رجل وطني ومقاوم ضد الاستعمار، يقدم الأستاذ مصطفى المتوكل لقراء جريدة "أنفاس بريس" محطات مشرقة من حياة الاتحادي الوطني الكبير سي محمد بوراس الفيجيجي ، الذي كان يحمل الوطن في قلبه منذ أن وشمت ذاكرته بحدث استشهاد جده وإصابة والده والدته في مواجهة المستعر الفرنسي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد انتقل إلى عفو الله ورحمته الوطني والمقاوم وأحد مؤسسي حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الوطني الصادق سي محمد بوراس الفيجيجي بمدينة تارودانت يوم الأحد 23 غشت 2020 ، حيث ووري الثرى بالمقبرة الكبرى بباب الخميس قرب رفيقه في الوطنية والنضال عمر المتوكل الساحلي . في علاقة بهذا المصاب الجلل تنشر "أنفاس بريس" خلاصة تركيبية لحياة الفقيد انطلاقا من  مذكرات الفقيه الفيكيكي التي تحمل عنوان : "سفر في زمن المقاومة والنضال والمنشورة سنة 2015"

رسالة محمد بوراس إلى لفقيه البصري التي أعلن فيها عن تخليه عن الحركة

قامت حكومة عبد الله إبراهيم بمبادرات وأعمال إيجابية كان لها الصدى الطيب بالوطن، وفي هذه الأجواء طالب كل من عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد  بجلاء الجيش الفرنسي من المغرب، و في هذا السياق قال أحد المسئولين الفرنسيين متحديا : "سنرى من سيجلى، أنحن أم هم ؟". وفي شهر ماي من سنة 1960، تمت إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، وشكلت حكومة يترأسها الملك محمد الخامس تضم الأحزاب السياسية باستثناء حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية ..

لقد شهد المغرب في هذه الفترة، حملات من القمع والاعتقال طالت العديد من القادة الوطنيين والمقاومين وقيادات جيش التحرير المغربي. وتوبع العديد بتهم ملفقة موضوعها مؤامرة اغتيال ولي العهد. وبقوا معتقلين إلى أن أصدر الملك الراحل  محمد الخامس بلاغ العفو عنهم ..

بعد العفو، مباشرة شرع الاتحاديون سنة 1960، في الإعداد للانتخابات، حيث حصلوا على أغلبية المقاعد في المدن الكبرى. وفي شهر أكتوبر من سنة 1960، ذهب محمد بوراس رفقة عبد الرحيم بوعبيد إلى مدينة وجدة حيث ألقى هذا الأخير محاضرة هناك، وبعد عودتهم علم بحدوث اعتقالات كبيرة  شملت حتى بنموسى، وبنحمو. وأخبر بنسعيد الذي التحق بمحمد بوراس، فقررا الاختفاء حيث استقر بضيعة مولاي العربي التي بقي بها قرابة ثلاثة أشهر ونقله بنسعيد إلى موقع آخر حيث وجد إبراهيم التيزنيتي مختفيا أيضا ..

مكثوا هناك إلى اليوم الذي توفي فيه محمد الخامس في شهر فبراير من سنة 1961، حيث تم الإنتقال إلى الشمال، وسلكوا طريق المهربين للدخول إلى مدينة سبتة، دون استعمال جوازات سفرهم، فاعترضهم بعض الحراس الذين أسروا لهم باسم عبد الرحمن اليوسفي، فتركوهم يمرون.

 قام بعض الوطنيين بنقل متاعهم وحاجاتهم، ليغادروا على متن الباخرة إلى إسبانيا ثم الحافلة من مالقا إلى باريس، و كان في انتظارهم مولاي المهدي العلوي الذي كان طالبا وقتها، حيث سيتكلف المهدي بنبركة بعد أسبوعين بإعداد إجراءات تنقل محمد بوراس، والحسين الصغير، ومصطفى العماري، وأحمد الفطري إلى يوغوسلافيا.. وشرعوا في تعلم اللغة المعتمدة في صربيا، وكانت تصلهم منح لمصاريفهم  الشخصية الضرورية ..

استمرت حملة الاعتقالات في المغرب، لتطال المقاوم الكبير لفاخري الذي كشف بعد التعذيب العنيف عن مخبأ السلاح المخصص لمواجهة الاستعمار. و صدرت أحكام  يوم 20 غشت  موزعة، بين السجن المؤبد والحكم بالإعدام على عبد السلام الجبلي، ومحمد بنموسى الساحلي 20 سنة سجنا ..وأحكام متفاوتة على إخوانهم المعتقلين بالمغرب.

 بعد إفصاح  محمد بوراس بتعبيره عن عدم رضاه  بالبقاء في يوغوسلافيا، أرسل إليه المهدي بن بركة بطاقة الطائرة إلى بيروت، حيث وجد في استقباله الوطني والمقاوم الكبير أحمد المرابط، والتحق بالعاصمة دمشق بسوريا مكان تواجد إبراهيم التيزنيتي، وعمر الفرشي، وعمرو العطاوي ، في حين التحق بعض رفاقه بالجزائر بعد استقلالها ليبقى محمد بوراس بسوريا إلى حين وقوع الانقلاب بها في مارس 1963.

 في زمن الانقلاب زار كل من اليوسفي والبصري سوريا للتهنئة بنجاح الانقلاب، وأقنع الفقيه البصري محمد بوراس بضرورة الانتقال إلى الجزائر رغم تحفظه من السفر إليها لوجود خلافات بينه وبين بعض قيادات الجزائر. وبعد التقائه بالمجموعة توجه إلى وهران، وبعدها بلعباس حيث التحقت أعداد أخرى بالجزائر التي رحبت بالملتحقين في زمن بنبلة.

في نهاية حكم بنبلة وقعت خلافات، واعتقل العديد من الوطنيين، حيث وضعوا  بمعسكر الوطي، ووقع خلاف بين الجماعة ومولاي عبد السلام الجبلي من جهة ومولاي عبد السلام و محمد بوراس من جهة أخرى ..وفي الوقت الذي كان يستعد فيه بنبلة لعقد الصلح مع المغرب،  قاد بومدين انقلابا في يوليوز1965 ...وحل عند محمد بوراس كل من محمد اليازغي و محمد بنسعيد أيت إيدر، ليخبراه بضرورة الإحتياط، حيث قررت المجموعة أن يغادر بوراس الجزائر،  فسافر إلى باريس بجوازه المغربي.

 بعد مدة، أراد بوراس التوجه إلى روسيا لمعالجة عينه المريضة، ولما كان بألمانيا اتصل مع أحد الإخوة بفرنسا ليخبره بحدث اختطاف المهدي بنبركة. ولما رجع لباريس بدأ بالتنسيق مع مولاي عبد السلام في شأن جواز سفره الذي أشرفت صلاحيته على الإنتهاء.

أنجز جواز سفر لمحمد بوراس بالسفارة السورية باسم جديد لتجنب التعرف عليه واختطافه، خاصة وأنه محكوم بالمغرب بالسجن المؤبد، وللتغطية على عدم وجود ختم دخوله لفرنسا قام بوضع شكاية للأمن يخبر من خلالها بضياع جوازه ليعطى بعد أيام شهادة الضياع وحل الإشكال .

سافر سي محمد بوراس، بعد ذلك إلى روسيا لعلاج عينه، وتصادف وقت انتهاء علاجه وهو مقيم بالفندق، الاستعداد لاستقبال الملك الحسن الثاني الذي كان في زيارة لروسيا، فطلب من مرشده أن يحوله لفندق آخر، لأن وفدا رسميا سيحل بنفس الفندق، وكانت غايته تجنب أن يكون شخص ضمن الوفد المرافق للملك وخاصة الحراس الشخصيين الذين يعرفهم ويعرفونه في أوقات لقاءاته به أو بالملك محمد الخامس.. كان هذا في 1966 ، ليعود إلى باريس فاتصل به عبد الفتاح  سباطة يخبره بأن  شخصا يريد رؤيته ليجد الفقيه البصري ..

بقي محمد بوراس يتنقل بين عدة دول، وكان عمله وتحركاته ومبادراته في تنسيق تام مع اتحاديي الداخل واتحاديي الخارج واللاجئين تجنبا للقمع أو الإعتقال أو تنفيذ الأحكام الصادرة ضدهم، وكان العمل يشمل التأطير والتكوين الفكري والتداريب، وتنظيم استقبال ورعاية ودعم وتيسير إقامة وتنقل واندماج اللاجئين بما في ذلك إعداد الوثائق والجوازات ضمانا لحمايتهم وتجنب مراقبة تحركات العديد منهم، وكان بوراس متحفظا جدا من أحد كبار الضباط بالجيش المغربي يطلق عليه اسم "جنرال"، الذي التحق بهم وكلف للإشراف على التداريب، وأخبر ونبه مرارا بعض القياديين بشكوكه ومنهم الفقيه أثناء إحدى زياراته لسوريا.

وبعد أن قدم إلى دمشق من براغ، أبلغ بأن حملة اعتقالات تمت وشملت أحمد بنجلون و بونعيلات بإسبانيا وسلما للسلطات المغربية، وغيرهما ممن لديهم جوازات سفر سورية رحلوا لسوريا بتدخل من السفارة السورية، أما التيزنيتي فرحل للسجن لأن رخصة إقامته انتهت إضافة إلى ما حجز معه..

في سنة 1971، و تزامنا مع زيارة اليوسفي لدمشق  كتب محمد بوراس رسالة للفقيه البصري يخبره بأن ما يقومون به هو ضرب من العبث وأن ذلك ينتج عنه المزيد من الإعتقالات، و لخص قراره بقوله "فلتعتبرني من الآن أنني أتخلى عن الحركة" . وسلم الرسالة مغلقة لليوسفي ليسلمها للفقيه البصري.

في سنة 1972 زار بنونة، محمد بوراس في سوريا وأحاطه علما بالتسلل الذي سيقومون به من الجزائر عبر فيجيج فنبهه إلى أنه لم يعد معهم في هذه "الحريرة" وأن هذه مغامرة مكشوفة وستثير الشكوك من البداية. واتفق لم شمل أسرة بوراس بتنظيم تهريب الزوجة والابنين الصغيرين من المغرب عبر الجزائر وأنجزت جوازاتهم وأرسلت إليهم بمقر إقامتهم بوهران ليسافروا إلى إيطاليا دون مرافق وقام بوراس باستقبالهم بمطار دمشق وسجل الأبناء بالمدرسة ..

في يوم 3 مارس 1973 استمع إلى أخبار أحداث مولاي بوعزة بإذاعة إسرائيل بالعربية، والتي عبر بوراس عن رفضه تنفيذ أية مهمة للجماعة، لأنه متشبث باعتزاله. وبعد وصول الأبناء للجامعة وتدخل قياديين وطنيين من المقاومة عند الدولة المغربية أعطيت التعليمات لتسوية وضعيتهم بإعداد جوازات سفرهم المغربية وتوصلهم بالمنحة المغربية.

في سنة 1977، سافر إلى باريس لزيارة الطبيب وتصادفت زيارته زيارة لعبد الرحيم بوعبيد لفرنسا، وقام مولاي المهدي العلوي بتحديد موعد لقاء بينهما واقترح عليه بـوعبيد التدخل لتيسير عودته للمغرب، فاشترط أن يعود معه شخص عزيز عليه اسمه محمد ساعة ، الذي كان وراء الإشراف على دخول الجماعة من الجزائر إلى  فيجيج ثم كولميمة .

في سنة 1980، صدر عفو ملكي ليطلب الإلتقاء بصديقه محمد ساعة بباريس ودخلوا سويا إلى المغرب. وللإشارة فقد خرج سي محمد بوراس من المغرب في 28 أكتوبر 1960، وعاد إليه في 29 أكتوبر 1980، وكان في استقباله أعضاء من المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي واللجنة الإدارية للحزب، ونظم حفل استقبال بمنزل الحبيب الشرقاوي.

حاول محمد بوراس  التدخل باتفاق مع عبد الرحيم بوعبيد عند محمد عابد الجابري لثنيه عن الاستقالة بعد أن تعطلت مساعيه لرأب الصدع  مع جماعة أحمد بن جلون، ولم يسفر تدخل بوراس عند الجابري عن أية نتيجة لتشبث الأخير بقراره.

 بالمؤتمر الرابع للاتحاد الاشتراكي انتخب محمد بوراس عضوا باللجنة الإدارية للحزب، إلا أنه عبر عن عدم استعداده لتحمل أية مسؤولية حزبية وأخبر لجنة الترشيحات بالمؤتمر الخامس  بقراره.

بقي الفقيه الفيجيجي سي محمد بوراس مستمرا في وفائه  لوطنيته الصادقة ومبادئه ورفاقه في الوطنية والاتحاد واليسار، ويتتبع بشكل كبير كل قضايا المغرب والأوضاع السياسية والحزبية برؤية نقدية موضوعية بناءة ، وكان دائم التواصل مع رفاقه وأصدقائه إلى أن أقعده التعب والهرم.

اختار الحضور إلى مدينة تارودانت عند ابنه جمال وليلقى ربه ويدفن بمدينة تارودانت يوم الأحد 23 غشت 2020.

انتهى.. الحلقة الأخيرة