الأربعاء 17 إبريل 2024
فن وثقافة

البرازي : يحكي عن ذاكرة أبي الجعد الشعبية من خلال شخصية أبا علال العلوي بدرب الكرعة

البرازي : يحكي عن ذاكرة أبي الجعد الشعبية من خلال شخصية أبا علال العلوي بدرب الكرعة أباعلال ورفيقته ميمونة (في إطار الصورة)، والفنان المبدع بوعبيد البرازي
كان أباعلال العلوي رحمه الله، ذلك الرجل الكفيف، الطويل القامة، القوي البنية، أسمر اللون، مشوب بحمرة، والذي يخفي عينيه وراء نظارات كبيرة سوداء، بدون منازع كان الرجل فنانا شعبيا أصيلا، متقنا لغناء العطية، وعازفا كبيرا على آلتي الكمان ولوتار.
كان أبا علال، مطلوبا لتنشيط حفلات مناسبات النساء، لكونه كفيفا، وباقي أفراد مجموعته نساء، نظرا للطابع المحافظ الذي كانت تحتفظ على درجة كبيرة منه جل طبقات مجتمعنا بأبي الجعد، وقد حضرت في عدة مناسبات احتفالية، وأنا طفل مع والدتي عند العائلة.
كان رحمه الله، وجها فنيا شعبيا معروفا في درب شعبي رائع مميز، من دروب مدينة أبي الجعد، وهو درب الكرعة، وبالضبط في زنقته الشمالية المحاذية للشارع الذي يفصل بين ما يسمى بـ "بجعد الجديد و بجعد القديم".
كان يجلس في هذه الزنقة قرب منزله باحثا عن الدفء، متكأ على حائط بجوار أحد الدكاكين، مصحوبا بآلة لوتار التي كان ينقر عليها بيمناه، ويجس أوتارها برؤوس أصابع يسراه، محدثا نغمات شجية، صانعا بسحر نغمه نوعا من الأنس المتبادل بينه وبين المارة وأصحاب المحلات التجارية بالزقاق.
زقاق درب الكرعة بأبي الجعد، جد متميز بحركته، بشعبيته وحيويته وكثرة مرتاديه، والبائعين به، من مختلف الحرف والمهن، حيث تتواجد دكاكين أصحاب المواد الغذائية والخضروات، والألبان والخبز والفطائر، ومحلات بيع الأشرطة الغنائية التي تتعالى من داخلها أصوات عيوط الزعري للشيخة خربوعة، و الشيخ محمد العواك..وو.. فضلا عن محلات إصلاح الراديوهات و التلفزات المتاخمة بجانب دكاكين قلي الأسماك، وتحضير "السندويشات"، ومحلات متخصصة في الإسفنج والفطائر..التي تمتزج روائحها لتنتج سحر المكان وفضاءاته الشعبية.. مرورا بمحلات بيع الأثاث و الأفرشة المنزلية، وأخرى لبيع اللحوم والدجاج وغيرها...
كل هذه المشاهد الرائعة ببساطتها، تتخللها صور مقاهي شعبية كلاسيكية للعب "الكارطة" أو "الضامة"، وارتشاف و تحضير أباريق الشاي المنعنع، و كؤوس القهوة المنكهة والمطهية ببطء و بعناية حيث يطلق عليها شعبيا اسم "الزيزوة" .
أبا علال، كان فنانا أصيل رحمه الله، يؤثث هذا المكان بشخصيته المحبوبة، وكنت في طفولتي مولوعا، وفي بدايات تعلمي العزف على آلة لوتار كنت أتربص به، واقتنص فرصة الاقتراب منه، والإصغاء لترانيمه وعزفه، بحيث لا يشعر بوجودي للتأمل والملاحظة والتعلم من طريقة تعاطيه مع الآلة.
كان الوقت يطول بي، في بعض الأحيان إذا كان يحدث نغمة، ويسافر سارحا في أعماق نفسه، كالمتصوف الزاهد على متن صهوة آلته، و لا يعاود الأخرى إلا بعد فترة. ..وأنا صابر لشغفي الشديد.
وحدث أن كنت برفقة أحد الأصدقاء ممن يكبرونني سنا، ويعزفون جيدا على آلة لوتار، فاقتربنا منه، وجاذبه صاحبي أطراف الحديث حد الاستئناس، وأخذ منه الآلة، وجلس القرفصاء بجانبه، وعزف مقطوعة جميلة محكمة، فما كان من شيخنا أبا علال، إلا أن تعكر مزاجه وامتدت يده بإحكام إلى يد الآلة مهتديا بحاسته السمعية القوية وانتزعها منه، قائلا له: "أرا داك لوتار لهنا.. وسير أولدي فحالك"، فغادرنا المكان وأنا أعاتب صديقي..
أتذكر أنني كنت أتصيده مع مجموعة من شيوخ المدح للقصائد الصوفية الشرقاوية وهم ينشدونها ويترنمون بأصوات جميلة، وألحان شجية تشد الانتباه وتخطف الألباب، وتبعث على الخشوع.
تعلمنا من أبا علال، ومنهم الكثير، بالملاحظة فقط، رحمة الله عليهم، وكانوا يشكلون ظواهر فنية شعبية جميلة في الوسط الذي ترعرعنا فيه، والذي لا زالت نفحاته تطبع وجداننا.