الجمعة 29 مارس 2024
سياسة

في شهادة لأريري: اليوسفي وأنا والبصري والقائد الأعلى للجيش

في شهادة لأريري: اليوسفي وأنا والبصري والقائد الأعلى للجيش الملك الحسن الثاني رفقة سي عبد الرحمان وعلى اليسار نسخة من رسالة البصري لليوسفي

بعد رحيل رجل دولة كبير من قيمة سي عبد الرحمان اليوسفي، سيستعيد كل من منحته ظروف الحياة أن يحتك به، تفاصيل خاصة جمعته به في مناسبات مختلفة. فكرت طويلا، كيف يمكن لي أن أكتب عن الرجل بقيمته ومكانته، من موقعي الخاص كصحافي ومواطن مغربي منحته الحياة أن يجاور رجلا فاضلا ومسؤولا سياسيا وقائدا وطنيا ورجل قانون من حجمه وعياره، حيث تكون كتابتي، ليست بالضرورة مختلفة عن الباقين، بل أن تكون وسيلة لرسم بعض من ملامح شخصيته رحمه الله، من خلال محطات غير معروفة تفاصيلها عند العموم، كنت طرفا فيها.

إن غايتي الكبرى، هي أن أقدم مادة من خلال وقائع معينة، تسمح للقارئ باكتشاف معدن الرجل وشكل اشتغاله وفلسفة تدبيره لمسؤولياته الحزبية والحكومية والإعلامية. لأنني أومن أن الرجال تظهر معادنهم في لحظة الامتحانات التدبيرية الساخنة. وفي مجالنا الصحفي والإعلامي، كم هي كثيرة تلك الامتحانات الحارقة والصعبة.

لقد اخترت لأول مرة الحديث علنيا عن قصة رسم حدود المدار الحضري للدار البيضاء والخلاف الحاد الذي كان يميز علاقة الراحلين: إدريس البصري، الوزير القوي في عهد الحسن الثاني، والجنيرال القادري مدير المخابرات العسكرية وكيف عكست ذلك جريدة "الاتحاد الاشتراكي" التي كان يديرها المرحوم اليوسفي وفي نفس الوقت كان يشغل منصب الوزير الأول في فترة حرجة من تاريخ المغرب الحديث.

"أنفاس بريس" تعيد نشر هذ الشهادة التي نشرتها في النسخة الالكترونية لأسبوعية الوطن الآن":

 

"نشر لي، يوم الأحد 21 فبراير 1999، مقال بجريدة "الاتحاد الاشتراكي"، هو في الأصل قراءة لاجتماع عقده وزير الداخلية آنذاك إدريس البصري مع منتخبي وعمال الدار البيضاء بمقر عمالة بنمسيك.

في هذا اللقاء الرسمي، أثيرت مسألة توسيع المدار الحضري للدار البيضاء، خاصة من طرف منتخبي عمالة بنمسيك - سيدي عثمان الذين كانوا يلحون على تجاوز خط شارع عبد القادر الصحراوي (حدود المدار الحضري للدار البيضاء آنذاك وفق مرسوم 1971) وتمديده إلى ما وراء المدينة الجديدة لسيدي عثمان  (حيث المدار الطرقي الجنوبي الحالي للمدينة).

وفي جوابه عن تدخلات المنتخبين رفض الوزير البصري كل مناقشة بشأن هذا الموضوع. إلا أن ردود المنتخبين القوية، جعلته يتناول الكلمة من جديد ويقول للقاعة: "إن المدار الحضري للدار البيضاء أمر موكول للقائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية".

تصريح الوزير القوي في عهد المرحوم الحسن الثاني، جعلني أنتبه إلى أن الأمر مهم للغاية بالنظر إلى أن مواكبتي لكل أنشطة الوزير البصري سواء بالحضور الشخصي أو عبر التلفزة، مكنتني من التعرف وضبط قاموس الوزير الخاص باستعماله لكل ما هو مرتبط بالملك الحسن الثاني. إذ كان الوزير يستعمل ألفاظ: "سيدنا، صاحب الجلالة، أمير المؤمنين."، ولم يحدث إطلاقا في اجتماعات مدنية للوزير البصري مع المنتخبين أن استعمل لفظة "القائد الأعلى للجيش" بخصوص المرحوم الحسن الثاني.

 

الراحل عبد الرحمان اليوسفي الوزير الأول السابق (يمينا) والراحل إدريس البصري الوزير السابق للداخلية

 

لما عدت إلى مكتبي بالجريدة حررت تغطية صحفية، لكن بمسحة تحليلية تتضمن احتمال وجود رهانات عسكرية تتحكم في توسيع أو عدم توسيع المدار الحضري بارتباط بلوبيات ومجموعات مالية كبرى، وهو المقال الذي صدر بجريدة الاتحاد الاشتراكي بالصفحة الأولى في عدد الأحد 21 فبراير 1999.

ما أن صدر المقال ووزعت الجريدة ليلا، حتى "قامت القيامة" وانطلقت الاتصالات الهاتفية، وكان وقتها استعمال الهاتف النقال محدودا وليس شائعا.

في صباح يوم الأحد اتصل بي فنان مغربي مشهور وأخبرني بأن رئيس الدائرة بعمالة أنفا يريدني في أمر مهم. وطلب مني الاتصال به لأنه تعذر على المسؤول الترابي ذاك الاتصال بي مباشرة.

اتصلت برئيس الدائرة الذي أعرفه ويعرفني بحكم الاحتكاك المهني في المؤتمرات ودورات المجالس والمهرجانات، لأستفسره عن سبب الإلحاح في طلبي، فأخبرني بأن "الدنيا مقربلة في المغرب" بسبب المقال الذي صدر بجريدة "الاتحاد الاشتراكي".

قلت له إن الأمر عادي، وهو مقال تغطية لنشاط الوزير البصري مع المنتخبين والعمال، وبالتالي لا أرى مبررا لهذه "القربلة" التي تتكلم عنها.

أجابني: "أنا مجرد مرسول والسيد والي الدار البيضاء أوشن، ينتظرك هذا الصباح بمكتبه بمقر الولاية".

 

أخبرت رئيسي المباشر الأخ محمد شوقي (الذي كان مديرا للتحرير بالجريدة آنذاك، والذي مازلت أعتز بأخوته وصداقته إلى اليوم) بالموضوع، وقصدت مقر ولاية الدار البيضاء حيث استقبلني الوالي أوشن صحبة الكاتب العام بالولاية.

قال لي الوالي: "إن مقالك الصادر اليوم بجريدة الاتحاد الاشتراكي قد خلق متاعب كبيرة للوزير البصري، وهو لم يقل ذاك الكلام بل أنت قولته ما لم يقله".

أجبت الوالي: "لدي تجربة تفوق عشرة أعوام في المجال الصحفي وقمت بتغطية المئات من الندوات والدورات واللقاءات، ولم يحدث إطلاقا أن حرفت كلام مسؤول حكومي أو حزبي أو جمعوي أو منتخب. فكيف لي أن أتصرف في مضمون كلام الوزير البصري".

في هذه اللحظة زاد الوالي أوشن من حدة خطابه وقال لي: "نحن لا نريد الذهاب إلى المحكمة، وليست لديك أدلة أو تسجيلات عن ما نسبته للوزير البصري من قول".

هنا رفعت أيضا من حدة جوابي وقلت له: “السيد الوالي المحترم، لدينا نفس الرئيس، وهو عبد الرحمان اليوسفي، أنت والي تعمل تحت إمرته بوصفه وزيرا أول، وأنا صحافي أعمل تحت إشرافه بحكم أنه المدير المسؤول عن الجريدة. وبما أننا وصلنا إلى المحاكمة، فمن الأحسن أن تتواصل مع اليوسفي مباشرة أو عبر الوزير البصري"، وتدخل  الكاتب العام بالولاية لتهدئة الجو، ثم انصرفت.

 

لما عدت إلى مقر جريدة "الاتحاد الاشتراكي" مباشرة بعد هذا اللقاء، حكيت للأخ محمد شوقي ما جرى بالتفصيل ليطلع المدير اليوسفي بالموضوع.

اتصل بي المرحوم عبد الرحمان اليوسفي هاتفيا ليستفسرني حول الموضوع، فجددت أمامه نفس السرد.

وقال لي سي عبد الرحمن: “إن البصري يقول إن الاجتماع داخلي ولم تحضره أي وسيلة إعلام وبأنه ليس هناك أي تسجيل يمكن أن تبرر به ما قلت له في مقالك، فكيف دخلت إلى القاعة".

أجبته: "نعم، الاجتماع كان مغلقا، والتنقنيقة (أي الخبر) وصلتني من صديق عزيز علي، ولما وصلت قبل بدء الاجتماع تمكنت من ولوج القاعة لأن معظم موظفي ومسؤولي عمالة بنمسيك أعرفهم ويعرفونني، وبحكم العدد الغفير من المسؤولين الذين غصت به القاعة، فقد سمحوا لي بالولوج لأتابع مجريات اللقاء، خاصة وقد ألفوا حضوري في التغطيات الصحفية طوال عشرة أعوام في كل اللقاءات الرسمية وشبه الرسمية."

 أما بشأن توفري على تسجيل صوتي أو بالكاميرا لكلام الوزير البصري فقد أجبت عبد الرحمان اليوسفي بسؤال: "هل الموثق يصادق على الوثائق بالجماعة المحلية؟".

قال لي اليوسفي: لا، فهو محلف وخوله المشرع صفة "ضابط عمومي" officier public.

في هذه اللحظة قلت لليوسفي باستعارة نفس العبارة: "أنا كذلك لدي صفة "ضابط عمومي" وشهادتي وكتاباتي لا تحتاج لأوثقها بالصورة والتسجيل خاصة مع الوزراء والمسؤولين. وإن أردت الشهود فلدي قائمة بأسماء رؤساء جماعات كانوا حاضرين في الاجتماع وهم كلهم تعرفهم: المعز رئيس بلدية السالمية، عبد لله الشرقاوي رئيس بلدية المعاريف (وهما اتحاديان). محمد منصر، رئيس بلدية البرنوصي (من حزب الاستقلال)، وهناك مسؤولون آخرون إن أردت الاستئناس بشهادتهم يمكن أن أزودك بلائحتهم".

قال لي اليوسفي: "أنا أثق في كلامك وفي تغطياتك التي تكون أمينة في نقل ما يجري في الدورات واللقاءات، وأردت فقط التحقق أكثر. ولكن بالمناسبة قل لي لماذا ركزت على الجيش في مقالك وعلاقته بالاجتماع الذي ترأسه البصري بعمالة بنمسيك".

أجبته: "ليست لدي معلومات، ولكن لدي قراءتي الخاصة، فأنا متتبع لنشاط الوزير البصري ومتتبع للشأن المحلي، ولم يسبق للوزير أن قام باستعمال صفة الملك العسكرية وكقائد حربي. ولكن بما أن المنتخبين ضغطوا عليه في الاجتماع لتوسيع المدار الحضري، اضطر إلى إشهار الصفة العسكرية للملك ربما لتخويف الحضور ومنعهم من المطالبة مجددا بهذا الملف".

وأضفت: "أو ربما أن الوزير البصري أراد إرسال ميساج للجنيرال القادري (مدير المخابرات العسكرية آنذاك) الذي كان على خلاف مع البصري، وأيضا لخلط الأوراق في كل ما يهم التعمير والإنعاش العقاري بالدار البيضاء حتى يبقى البصري  هو سيد القرار بالمدينة خاصة وأن تصاميم التهيئة انتهى أجلها".

فقال لي اليوسفي: "دير خدمتك ولله يعاونك".

وبعد مرور أسبوع تقريبا، حل اليوسفي بمقر الجريدة، ونادى علي وصعدت إلى مكتبه بالطابق الخامس وقال لي: "وزير الداخلية مازال كاعي (أي مقلق) عليك، ورفض الإقرار بما قلته لي من رواية".

فأجبت سي عبد الرحمان: "ها وجهي ها وجهو، وأنا مستعد للمواجهة معه أمامك".

فابتسم اليوسفي ورد علي: “أعرفك وأعرف البصري، هو دار خدمتو، وأنت درتي خدمتك. ومريضنا ما عندو باس".

ولما هممت بالخروج من مكتب اليوسفي للعودة إلى مكتبي بالطابق الثالث لجريدة "الاتحاد الاشتراكي" خاطبني اليوسفي: "آجي تشوف بعدا آش كتب لي الوزير البصري بشأن موضوعك. فناولني رسالة احتجاج البصري وقرأتها.

والتمست منه منحي نسخة منها، وأعطاها لي على أساس أن أحتفظ بها في أرشيفي الشخصي وليس لأفتح سجالا مع الوزير البصري في الجريدة آنذاك (لا تزال في حوزتي إلى اليوم ).