لم يفاجئني موقف مجلس تمارة حين أطلق أسماء أصولية تنتمي لأمراء الدم والتطرف والكراهية على شوارع وأزقة المدينة، فرئيس المجلس "موح الرجدالي"، أصولي "دوريجين"، وكان وفيا لعقيدته الإخوانية الرافضة لكل ما هو مغربي. فالأصوليون بشكل عام "قلبهم مع علي وسيفهم مع معاوية"، وشرط وجود الأصوليين هو دعشنة المغرب والتمكين للفكر الوهابي والإخواني للتحكم في كل مفاصل البلاد: تعلق الأمر بالتحكم في الإدارة او في المجالس العلمية المحلية او الجامعة او الجمعيات أو في الثقافة والإعلام او القطاع المالي والتجاري وغيره.
لكن ما حز في نفسي هو أن وزارة الداخلية (أيا كان موقفنا منها بسبب ترسبات الماضي الأسود لرجالاتها في عهد سنوات الرصاص)، المفروض أنها وزارة تدعي حماية "بيضة التدين المغربي" وبكونها تشرب "عقل المجتمع المغربي" وبأنها "المؤتمنة على صيانة القواسم المشتركة للمغاربة"، نراها توافق وتبارك على نزع الراية المغربية من سماء مدينة تمارة لنصب راية داعش والنصرة والقاعدة ولنصب راية أمراء الدم ومروجي الفكر المتطرف، عبر مصادقة مصالحها على تدنيس شوارع تمارة باسماء أصولية متزمتة.
قرار دعشنة الشوارع سبق أن وافق عليه مجلس تمارة سنة 2006 في العهد الذهبي للعلاقة التي كانت تجمع بين الرئيس الأصولي موح الرجدالي وعامل الإقليم آنذاك مهيدية (الوالي الحالي لجهة طنجة والشهير بعلاقته أيضا برمز سياسي مشوه آخر: إلياس العماري)، حيث صادقت مصالح الداخلية على المقرر، وتم نصب اللوحات بالشوارع آنذاك. لكن بحكم التعرية وتآكل اللوحات مع مرور الزمن من جهة، وبحكم الفوضى التي تميز مالية الجماعات المحلية بالمغرب من جهة ثانية، قامت جماعة تمارة بعقد صفقة لصرف مخصصات بند تسمية الشوارع مخافة أن يسقط الاعتماد في "لاماس"، فتم تجديد لوحات تسمية الشوارع.
وشاءت الأقدار أن تتزامن القضية اليوم في سنة 2020 مع الذكرى الإرهابية الأليمة لأحداث 16 ماي الدموية، لينتفض المجتمع ضد هذا الغدر وضد هذا الطعن في موروث المغاربة الديني والفكري والسياسي والرياضي والثقافي، وكأن المغرب عقيم لم تنجب أرحام المغربيات علماء دين وفقهاء متنورين ومفكرين ورياضيين ومربين وشعراء وكتاب ومقاومين وفنانين وديبلوماسيين وشهداء ماتوا وهم يؤدون الواجب ضد العدو الجزائري أو ضد المجرمين والعصابات المنظمة.
دعشنة شوارع المغرب ليست وليدة اليوم، إذ انطلقت مع الجيل الأول من الأصوليين الذين أوصلتهم الانتخابات الجماعية عام 2003 إلى مركز القرار، وأبرز وجوه هذه الموجة هو موح الرجدالي رئيس جماعة تمارة، وهي موجة تميزت بـ "التموكيل" والزحف المدروس، أي الاكتفاء بطرح أسماء أصولية قليلة لتجنب إثارة الانتباه. في الموجة الثانية التي انطلقت في انتخابات عام 2009، ومع التمكين الذي تحقق للبيجيدي، أطلق الأصوليون يدهم "لطلي" مدن المغرب بهذه الأسماء. لكن في الموجة الثالثة التي انطلقت مع نتائج انتخابات 2015 (وبسبب ضعف الدولة التي كانت ضعيفة بسبب تداعيات حركة 20 فبراير) أصبح ممثلو البيجيدي في المجالس المحلية أكثر جرأة ووقاحة في تهريب المغرب نحو سماوات الشرق الطاعن في التكلس والتشدد والتطرف، وكأن المغرب إقليم من أقاليم السعودية أو اليمن أو تركيا أو مصر، وليس دولة جذورها ضاربة في أعماق التاريخ.
نعم للانفتاح وتسمية الشوارع والمرافق العامة بأسماء أجنبية (عربية أو من حضارات أخرى)، لكن هذا الانفتاح مقيد بشرطين: عدم الغلو في بيع تراب وشوارع المغرب وواجهات مرافقه العمومية للعرب والعجم على حساب موروث المغاربة من جهة، والحرص على اختيار أسماء لها إشراقات وذات قيمة مضافة في التراث الإنساني (الفكري والعلمي والطبي والفني والادبي والرياضي والحقوقي وغيره)، بدل أن نغرف الأسماء من معين التطرف والتشدد من جهة ثانية.
وإذا كانت وزارة الداخلية غير قادرة على صيانة موروث المغاربة ومراجعة مقررات المجالس قبل التأشير عليها، فالأجدر أن يسحب منها اختصاص الوصاية على المجالس المحلية وإسناده لجهة عمومية أخرى قادرة على تجنيب المغرب السقوط في موجة ظلامية رابعة في الانتخابات القادمة.