الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

نور الدين الطويليع: كيف تعاملت بعض المنابر الإعلامية مع قضية موت تلميذة آسفي؟

نور الدين الطويليع:  كيف تعاملت بعض المنابر الإعلامية مع قضية موت تلميذة آسفي؟ نور الدين الطويليع

ما إن انتشر خبر موت التلميذة ليلى في حصة الاجتماعيات بإحدى ثانويات مدينة آسفي، وفي وقت مازالت فيه دموع أفراد أسرتها منهمرة، وقلوبهم مكلومة بالصدمة الأولى، وعوض أن تفكر أدوات الفتنة الجازمة وحروف الجر التي لا محل لها من الإعراب في زيارة أهل الفقيدة لمواساتهم والوقوف المعنوي إلى جانبهم حتى يتجاوزوا محنتهم النفسية، ويخرجوا من صدمتهم بأقل الخسائر، ما إن انتشر الخبر حتى هرعوا نحو المؤسسة التعليمية التي كانت تدرس بها الفقيدة، وأعطوا لِهَوَاهُم المريض حرية السباحة في الماء العكر، ورمي أبرياء بقذارته غير عابئين بعواقب فعلهم المشين وأثره الذي قد يأتي بقتل معنوي تعادل مأساته فاجعة فَقْدِ المرحومة ليلى.

حتى يعي من يقفون وراء منابر المستنقعات حجم جرمهم، سنشرح لهم أخطاءهم بالخشيبات، وسنكشف جرمهم الكبير الذي اقترفوه في حق المنظومة التعليمية، وفي حق الفقيدة، وفي حق أنفسهم.

أولا: يقتضي هذه الحدث الصادم التريثَ والحكمة، وتجنب النَّطِّ والنقيق في الأوحال تحت يافطة السبق الصحفي الذي يصبح الجري وراءه غير ذي جدوى، ويعبر عن غياب الذوق، وعن افتقاد الحس الإنساني في مثل هذه الحالات، فالواجب المهني كان يستدعي لَجْمَ الأهواء، وإسناد المهمة إلى العقل ليتحرى المشكل، ويبحث عن أسبابه وحيثياته، لأن الأمر يرتبط بحادث من شأن التلاعب بمعطياته والتسرع في تناوله الزج بأستاذة بريئة في غياهب السجن، وإعدام مُسْتَقْبَلِهَا المهني بطلقات الغدر والتسرع وانعدام المسؤولية.

ثانيا: يستدعي الواجب المهني الاستماع إلى جميع الأطراف المعنية بالحادث، فاتهام التلاميذ المستجوَبين أستاذتهم بالتسبب في قتل زميلتهم، ورميهم إدارة مؤسستهم بتهمة الإهمال والتهاون في تقديم يد المساعدة للفقيدة يفرض مِهْنِيًّا وأخلاقيا دخول المؤسسة، بدل التسكع أمام بابها واقتناص الضحايا من التلاميذ للزج بهم في موضوع لا يدركون، لحداثة سنهم، خطورته وعواقب الخوض فيه، قلت إن الواجب يفرض الاستماع إلى الأستاذة المعنية، وإلى مدير المؤسسة، وإلى أولياء الفقيدة، عملا بمعنى القولة المشهورة: إذا جاءك من يشكو أحدا فقأ عينه، فلا تحكم له حتى تستمع إلى المشتكى به، فقد يكون فَقَدَ عينيه كلتيهما.

لقد تبين بعد تلاشي فقاعات هذه الخرجات البئيسة مدى تنطع أصحابها، وظهر للعيان واضحا منسوب خبثهم ولؤمهم المرتفع، لاسيما بعد بيان مديرية وزارة التربية الوطنية بآسفي، وبعد تصريح أحد أقارب التلميذة المتوفاة الذي خاطب حاطبي الليل قائلا: "الوفاة ديال الله، وما ديروش فيها إيدين وارجلين".

ثالثا: يُفترض في من نصب نفسه إعلاميا أن يكون دقيقا في أسئلته، واعيا بخطورة ما قد يقع فيه من انزلاقات، وعلى قدر من المعرفة بالموضوع الذي يريد الخوض فيه، وهذا ما غاب تماما عن حاطبي ليل قضية تلميذة آسفي الذين نستطيع تصنيف وضعهم، بكل اطمئنان، في خانة الجهل المطبق والعمى المعرفي بشؤون المنظومة التربوية، فمتى كانت المطالبة بإحضار ولي الأمر، وكتابة تقرير عن مخالفة ما، ومطالبة المتعلم بمراجعة دروسه عناصر إدانة للمدرس؟.

لو كان المستجوِبون على قدر ضئيل من المعرفة التربوية لَرَمَوا آلة التصوير، وقصدوا أستاذة الاجتماعيات ليُقَبِّلوا رأسها احتراما لها وإجلالا وتقديرا لما تبذله من جهود، وما تقدمه من تضحيات من أجل الارتقاء بمستوى تلاميذها، ولِيُواسوها في محنة حرق الأعصاب غيرة على المنظومة، وعلى فلذات أكباد لم يدركوا، وسيدركون في ما بعد أن أستاذتهم كانت تحترق من أجل أن تنير دربهم، وأن الذباب الإلكتروني ورطهم في تصريحات يتغيى من خلالها إطفاء الوميض بجهله وسوء تقديره لعواقب الأمور.

رابعا: ليت المتنطعين أدركوا أن شهادة التلاميذ في حق أستاذة الاجتماعيات خارجة عن القانون، وأنهم استغلوا قاصرين في موضوع يتطلب أخذ ترخيص من أولياء أمورهم، سنتجاوز هذه الجريمة لنقرأ تصريحات التلاميذ في مستواها العميق، لا السطحي، الذي أخذت به منابر الجهل والأمية، هذه التصريحات التي أرادوا لها أن تكون سكين قتل معنوي غادر، هي على العكس من ذلك تماما، تبعث الأمل في نفوسنا، وتجعلنا نخرج بانطباع إيجابي خلاصته أن تعليمنا مازال بخير مادام فيه أساتذة يُقَطعون أنفاسهم إربا إربا لِيُرَتِّقُوا عقولا لم تع بعدُ أين تكمن مصلحتها، ولم تدرك أن سيزيف يحمل الصخرة من أجلها، وأنه يكابد مشقة الصعود بها إلى قمة جبل المعرفة، غير عابئ بالنتوءات التي يخلف دمه عليها، وبالآلام والأوجاع التي يقاسيها جراء مغالبته التحديات، ومصارعته إياها، دون أن يعلن نكوصا أو استسلاما، ودون أن يخضع لأمر واقع محبط، سيعي المتعلمون، متأخرين، أن ما توهموه عداوة وعدوانا هو حب أبوي راسخ، وأن صيحات مدرسهم وتوتره ونهره إياهم هو إمضاء روح أبوية كانت تحترق من أجلهم لِتَقِيَهُم نار الهدر والإخفاق والفشل.

هذه هي الرسالة التي ينبغي أن يتكفل الجميع بإيصالها إلى المتعلم في الآجال القانونية قبل أن يفوت أوان قراءتها، لا تغريره بصراع وهمي نصَّبت له فيه منابرُ السوء المُدَرِّسَ عدوا لذودا في إطار تعمية قيمية استحال فيها الحسنُ قبيحا، والقبيح حسنا لغايات دنيئة تصب في خانة البحث عن ضحايا يضيفون بمشاهداتهم وتفاعلاتهم ومشاركاتهم الإلكترونية رصيدا إضافيا يُقدَّرُ بدراهم لم تعد طريقة الحصول عليها موضوعة في الاعتبار، وصار تحقيق الوصال معها غاية الغايات، ولو كان هذا الوصال في الجحيم، أو رمى الناسَ في السعير في وضع يصدق عليه قول الشاعر:

ألا ليت أم الفضل كانت قرينتي ... هنا أو هناك في جنة أو جهنم