لقد توصل الباحثون في مجال تطوير الأداء الإداري إلى أن الاهتمام بالقاعدة القانونية غير كافٍ لبلوغ المردودية والفعالية بالإدارة العمومية، لأنها تقتصر فقط على تحليل وفهم الظاهرة الإدارية، في حين ينصرف اهتمام العلم الإداري إلى الكيفية الفعلية التي يتم بها تطبيق القاعدة القانونية كما وضح ذلك "الدكتور عقلة"، الذي وصف الإدارة بكونها "عبارة عن تجمع بشري، عبارة عن مجموعة أشخاص ذاتيين، الذين رغم انتمائهم وانصهارهم في الجسد الإداري وفي خلاياه، يحتفظون باستقلال ذاتهم وشخصيتهم، ويحتفظون بانفعالاتهم، بعواطفهم، بأنانيتهم، بنقط ضعفهم وبحبهم للسلطة، والتحكم أو بعبارة سوسيولوجية، يحتفظون بطبيعتهم البشرية".
وعليه، فكل إصلاح إداري هو رهين بفهم واستثمار الرأسمال البشري والاهتمام بالجانب غير الشكلي داخل الإدارة، وقد أظهرت مجموعة من الدراسات والنظريات مدى ضرورة الاهتمام بالعنصر البشري وفهم دوافعه وتحفيزه بهدف ضمان الفعالية في الأداء الإداري، ونخص بالذكر منها نظرية "فريديريك هيرزبيرغ" الرائدة في مجال تحفيز الأداء الوظيفي التي اهتمت بقياس حالات الاستياء وحالة الرضا الوظيفي في بيئات العمل، وخلصت إلى أن لكل شعور عوامله المسببة، فأنظمة وقوانين المؤسسة وأساليب تدبيرها قد يكون لها دور كبير في حالة الاستياء الوظيفي، في حين توجد عوامل قد تؤدي إلى الرضا الوظيفي، لها علاقة بطريقة التعامل مع الأفراد كتقديرهم والاعتراف بإنجازاتهم، وقد حاول "أبرهام ماسلو" من خلال نظريته التي اشتهرت بتدرج الحاجات، أن يبين أن الحاجيات مرتبة تصاعديا، بمعنى أن الإنسان يبحث عنها بالترتيب، فعندما يتم تلبية الحاجة الأدنى نسبيا، يبحث الإنسان عن المستوى الأعلى من الاحتياجات، ابتداء من الحاجات الفيسيولوجية إلى غاية الوصول إلى الحاجة لإثبات الذات، وقد اعتبر ذلك سلوكا طبيعيا على اعتبار أن الإنسان يبحث دائما عن التحسين المستمر لوضعه ماديا كان أو معنويا. فيما تشير نظرية العدالة لرائدها "أدمز" إلى أن الأفراد "يحفزون بتحقيق العدالة الاجتماعية والمكافآت التي يتوقعون الحصول عليها مقابل الإنجاز الذي يقومون به"، وقد أبانت هذه النظرية على أن الحوافز المادية لم تعد المحفز الأساسي للفرد داخل المنظومة لوجود عوامل قد تؤدي إلى عدم الرضا الوظيفي، فمثلا عدم شعور الفرد بالعدالة والإنصاف في المعاملة وفي توزيع المكافآت، وإحساسه بالتميز مقارنة بالأفراد الآخرين الذين يقومون بنفس المهام ونفس المجهود، يولد الإحساس بالاستياء الوظيفي، فالفرد لم يعد يهمه الحصول على مكافأة فقط، إنما يحرص على شعوره بعدالتها، ويحكم على تشابه المعاملة التي يلقاها داخل المنظمة.
ومما لا شك فيه، أن الحوافز في العصر الحديث لم تعد تقتصر فقط على الحوافز المادية كما كان معروفا عند المدرسة الكلاسيكية التي تبنت "فكرا إداريا مبنيا على أساس الاعتقاد بأن الموظفين لديهم احتياجات اقتصادية ومادية فقط، وأن الاحتياجات الاجتماعية والحاجة إلى الرضا الوظيفي، إما غير موجودة أو غير مهمة"؛ كما أن الحوافز لم يعد الهدف منها فقط التشجيع على الإنتاج الكمي، وإنما أصبح الهدف الأساسي منها، هو بلوغ مستوى عالي من الجودة في تقديم الخدمات، إذ أصبح هذا هو التحدي الكبير الذي تواجهه الإدارة في إطار مواكبة التطور وتحسين نوعية الخدمات، والبحث عن الجودة لتلميع صورة المؤسسة خارجيا وداخليا، بهدف تشجيع الاستثمار في إطار المنافسة الدولية الشرسة.
ومن تم أصبحت قضية تحفيز الموظفين وتأهيلهم من التحديات الكبرى التي تسعى السلطة التنظيمية إلى تنفيذها من خلال مخططاتها وبرامجها الحكومية، وتماشيا مع أهدافها، نجد مجموعة من المؤسسات العمومية تعمل على تأهيل الموارد البشرية وتطوير أساليب أدائها، وتلتزم بتنفيذ معايير نظام إدارة الجودة كقرار استراتيجي باعتماد مجموعة من الإجراءات والعمليات التي تحترم المبادئ المسطرة من قبل خبراء دوليين؛ وعلى أساسها، تم الاتفاق على مواصفات ومعايير لقياس الجودة، والعمل على تحسينها بشكل مستمر، بهدف تحسين مستوى الأداء وتلبية احتياجات المرتفقين أو الزبناء وباقي الشركاء بأعلى جودة.
وتعتبر دولة اليابان هي الرائدة في مجال حسن تدبير الموارد البشرية، حيث حققت تقدما اقتصاديا على المستوى العالمي في ظل ظروف طبيعية غير ملائمة، فرغم افتقارها الشديد للموارد الطبيعية، استطاعت أن تصبح منافسا كبيرا للدول العالمية، بفضل مواردها البشرية وأساليب إدارتها، وتعد منهجية "الكايزن" من الأساليب الأساسية لنجاح تدبيرها والتي تقوم أساسا على الاهتمام بالعقل البشري والإبداع الفكري وعلى التحسين المستمر واليومي؛ ولقد بين مطور هذه المنهجية "ماساكي أماي" أن رسالة "الكايزن" هي "أنه لا يمكن أن يمر يوما على المنشأة دون أن يحدث أو يطبق بها نوع ما من التحسين في أي قسم أو جزء من أجزائها"، كما بين أنها حرب ضد الهدر، وهي تحسين من موقع الحدث وليس من برج عالي، ولقد تم تبني هذه الأساليب في معظم أنظمة إدارة الجودة لأنها كانت سر نجاح النهضة اليابانية.
وبما أن الدول المتقدمة استطاعت ان تحقق نجاحا ملموسا بتطبيقها لنظريات علم الإدارة وأساليبها بشكل سليم على أرض الواقع، فإن الدول النامية برغم تبنيها لهذه النظريات في برامجها الحكومية ومخططاتها الهادفة إلى الإصلاح الإداري، ما زالت تعاني من مشكل التطبيق على أرض الواقع، وقد عبر جلالة الملك في خطابه بمناسبة الذكرى 18 لعيد العرش عن ذلك حين قال: "إن النموذج المؤسساتي المغربي من الأنظمة السياسية المتقدمة، إلا أنه يبقى في معظمه حبرا على ورق، والمشكل يكمن في التطبيق على أرض الواقع". وبالفعل فعدد من المسؤولين همهم الوحيد هو تلميع صورتهم بتعداد مجموع إنجازاتهم التي يستعرضونها إما بمناسبة تقديم برامجهم السياسية أو بمناسبة انعقاد المجالس الإدارية، بحيث يكون الغرض منها فقط، هو محاولة تقلد مناصب المسؤولية أو الحفاظ عليها، وصدق جلالته حين قال بنفس الخطاب: "ومما يثير الاستغراب، أن من بين المسؤولين من فشل في مهمته، ومع ذلك يعتقد أنه يستحق منصبا أكبر من منصبه السابق".
لكن هذا لا يعني إجهاض كل المحاولات والمجهودات الهادفة لإصلاح الإدارة والمبذولة من طرف بعض المسؤولين والمديرين، الذين يؤمنون بمفهوم القيادة ويسعون لتطبيق أساليب وآليات التدبير الإداري، غير أن العوامل المؤثرة في بيئة العمل تقف حجر عثرة في طريقهم، ولمزيد من التوضيح قمنا بتدوين بعض آراء وملاحظات الموظفين كما هو واضح في "مخطط السبب والنتيجة" رفقته، والذي يصطلح عليه أيضا باسم "عظم السمكة"، للعالم الياباني "إيشيكاوا"، والمستعمل بمناسبة جلسات العصف الذهني Brainstorming لمحاولة طرح المشكلات وإيجاد الحلول الممكنة لها.
وبعد إبداء آراء وملاحظات الموظفين حول أهم العراقيل التي تؤدي إلى سوء التدبير الإداري وضعف الفعالية في الأداء، تم التوصل لحل بعض منها، فيما بقي أهمها عالقا، فعلى سبيل المثال: تقرر حل مشكل سوء توزيع المهام بوضع بطاقة المنصب، وقامت المؤسسة بدورات تكوينية لحل مشكل سوء تدبير الأرشيف، وعينت متخصصين في هذا المجال. أما بخصوص غياب سياسة الحوار، فقد نهجت الإدارة أسلوبا للإنصات، وفتحت بابها للنقاش والحوار، وبفضل ذلك، تراجعت الدعاوى القضائية. ولكن مع ذلك بقيت أهم المشاكل المسببة للاستياء الوظيفي عالقة بسبب عدم قدرة المديرين اتخاذ القرارات الممكنة لحلها، لأنها تبقى خارج نطاق اختصاصاتهم، ومن أهم هذه العراقيل نجد النظام الأساسي غير المنصف، والتقاعد الهزيل، وغياب العدالة في توزيع المنح السنوية، والتعويضات الشهرية التي تعتبر من المتطلبات الأساسية للموظف، إذ لا يمكن للفرد أن يشعر بالرضا الوظيفي الا بوجود العدالة كما وضح ذلك "أدمز" في نظرية العدالة، حيث بيّن أن المكافأة كيفما كان حجمها، إن لم يتم توزيعها بالعدل بين الموظفين الذين ينجزون نفس المهام، فإن الموظف سيشعر دائما بالاستياء والإحباط الوظيفي.
أما فيما يخص نجاح نظام إدارة الجودة فهو رهين بمدى الاهتمام بالعنصر البشري وطريقة تفعيل أساليب منهجية "الكايزن" اليابانية لتحسين مستمر.
وعليه، فالإدارة العليا أو سلطة الوصاية ملزمة بتحفيز وإثارة سلوك الفرد بهدف إشباع حاجاته المعينة، إذ لا يكفي تعيين الموظفين ووضعهم في مناصب ملائمة لمواصفاتهم، وإنما لابد من الحرص على الاهتمام بالجانب الشكلي بالإدارة، وكذا الجانب الإنساني والأخلاقي بها، من خلال فهم حاجيات الموظفين ومحاولة تلبيتها، حيث لا يتوجب النظر إليهم كمجرد آلة تستعمل في زيادة المردودية فقط، وإنما ينبغي إعادة النظر في أنظمة المؤسسة، لضمان تقاعد محترم وتحفيزات عادلة، الشيء الذي سيسمح بخلق بيئة عمل تساعد على الابتكار والإبداع وتقديم خدمات بأعلى جودة، كما أنه لابد من الإشارة إلى ضرورة الالتزام وضبط الذات والتضحية سواء من طرف المسؤولين أو الأفراد، إذ لا يكفي اعتماد أساليب ومناهج دون الإيمان بتنفيذها على أرض الواقع.
نورة المومني، ماستر التدبير الإداري والمالي