السبت 20 إبريل 2024
مجتمع

كريدية : أخصب وأجود الأراضي الفلاحية وأكثرها مردودية تمتد بين دكالة وعبدة

كريدية : أخصب  وأجود الأراضي الفلاحية وأكثرها مردودية تمتد بين دكالة وعبدة الباحث، إبراهيم كريدية، ومشهد لمزارع

 

من أكثر الأقوال والأمثال شيوعا في الأوساط الفلاحية بالمغرب، أنه " إلا صيفوا احمر و الرحامنة ، المغرب يكون بخير "، على اعتبار أن المنطقتين تتوفران على أراضي شاسعة، ومناخهما شبه جاف وتحتاج الفلاحة فيهما إلى كميات كبيرة من التساقطات المطرية، وإذا التقت شروط الإنتاج الإيجابية يتحقق فائض في المحاصيل الزراعية، إلا أن الفلاحة بمنطقتي دكالة وعبدة تعرف بجودتها ووفرتها منذ زمن بعيد، والدليل هذه الورقة التي أعدها الباحث والمؤرخ الأستاذ إبراهيم كريدية من خلال مجموعة من المصادر والمراجع التاريخية التي تناولت الغنى الفلاحي الذي كانت تمتاز به منطقتي عبدة و دكالة.

ـ كان العامة قديما يروجون بالمغرب "مثلا " يقول : "لو كان دكالتين وعبدتين يسوى حمل الزرع كعبتين"، بمعنى لو كان يوجد في المغرب اثنين من بلاد دكالة واثنين من بلاد عبدة، لكان ثمن الحبوب رخيص جدا أو كما نقول في دارجتنا "باطل".

ـ جاء في الرواية الشفوية، "أن السلطان الحسن الأول لما كان يخبر بأن الموسم الفلاحي بخير بالمغرب، كان أول سؤال يسأل هو : كيف الحال بين الثلاثاء والثلاثاء ؟، ويعني بذلك كيف هو محصول الحبوب بالسهل الخصب، الممتد فيما بين "ثلاثاء بوكدرة" و"ثلاثاء سيدي بنور"، لأن بينهما تمتد أخصب أراضي الحبوب وأكثرها مردودية بمجموع عبدة ودكالة.

أن المعمرين الفرنسيين لما دخلوا بلاد عبدة وأخذوا في استغلال قسم من أراضيها، اكتشفوا أهميتها الفلاحية، لم يترددوا في وصفها باسم "Beauce marocaine"، تشبيها لها بمنطقة "Beauce" الفرنسية الخصبة، الواقعة جنوب غرب باريس، والتي تمتد في خمس مقاطعات، وتغطي أكثر من 600 ألف هكتار، بل نجد أن بعض المعمرين الفرنسيين من يذهب بعيدا في وصف الغنى الفلاحي العبدي، بوصف بلاد عبدة ب " grenier du Maroc"، أي مخزن غلال المغرب أو مطمورة المغرب.

إزاء هذه الأوصاف والنعوت، التي تشي بالأهمية الفلاحية لإقليمنا، فإننا نمتلك شواهد وقرائن تاريخية أخرى تؤكد هذه الأوصاف المعبرة عن الغنى الفلاحي ببلاد عبدة، ومن ذلك :

ـ فهذا القاضي أحمد الخطيب الشهير بابن قنفذ القسنطيني، ورد على بلاد دكالة وكانت بلاد عبدة يومئذ ضمن ترابها سنة 769ه/1370م، أي زمن حكم السلطان عبد العزيز المريني (1367-1372)، فذكر في كتابه المعروف " أنس الفقير وعز الحقير" ما حرفيته : " لقد حضرت ... (ب) جوف إقليم دكالة بين بلد أسفي وبلد تيطنفطر... زمان قضائي بدكالة، (فوجدتها) أرض مستوية، طولها مسيرة أربعة أيام وكذلك عرضها، ووجدت فيها خمسة وعشرين مدرسة، وبلغت أزواج حراثتها زمان ورودي عليها عشرة آلاف ... وليس بها نهر ولا عين إلا آبار طيبة".

ـ وهذا القاضي أبو بكر بن العربي، "عجب من قلة مائها (يقصد ماء ومطر بلاد عبدة) وكثرة خيرها"، ولاحظ ميزة أخرى، وهي أن أرضها "أنبتت ثاني يوم المطر". (أنس الفقير وعز الحقير، ص.71).

ـ وهذا لسان الدين بن الخطيب المتوفى سنة 776هـ/1374م، يصف بلاد عبدة ومعها حاضرتها أسفي، بقوله : بلد "فسيح طيب الهواء كريم التربة خصيب الجناب وأهله أولو خيرية ..." ، مضيفا "...هذا الوطن المتكاثف العمارة، الجم الماشية (أي الكثير الماشية)...الغاص على انفساح مداه (أي المزدحم رغم شساعة مساحته) بالراغية (يقصد بالراغية الإبل) والثاغية (يقصد بها الأغنام والصاهلة (إشارة إلى كثرة الخيل) والناهقة." .

ـ أما الحسن الوزان المتوفى بعد سنة 957هـ/1550م، فنجد عنده إشارات عن هذا الغنى الفلاحي ببلاد دكالة، وضمنها عبدة أي ما كان يسمى دكالة الحمراء، وحسبنا أن نذكر من هذه الإشارات، مدينة "مائة بير"، فقد سميت بهذا الاسم لوجود مطامير خارج المدينة، تشبه في طريقة حفرها وفي عمقها الأبيار أي الآبار، كان السكان يخزنون فيها غلالهم من الحبوب، ومن كثرة هذه الحبوب كان خزنها، كما يقول الوزان في كتابه "وصف إفريقيا" يمتد لمائة سنة، "دون أن يفسد أو تتغير رائحتها"، وعندما نهب الملك الوطاسي هذه المطامير بعد فرار سكان مدينة مائة بير إلى أسفي، وجد فيها كميات كبيرة من الحبوب والعسل.

ـ وهذا إدموند دوتي المتوفى سنة 1926 في رحلته المشهورة بين 1901 و1902، التي قادته إلى مراكش، انطلاقا من الدار البيضاء، ومروراً بالشاوية و دكالة وعبدة و الرحامنة، فعند وصوله بلاد دكالة، كانت أول ملاحظة استوقفته، هي انتشار الأكواخ وأن الدور الصلبة المبنية بالحجارة قليلة جدا ومتفرقة، مفسرا ذلك بقوله : إذ ليس مقدور أحد من الدكاليين بناءها ما عدا المحميين منهم، خوفا من طمع وبطش وحبس قائدهم، أما ببلاد عبدة الخاضعة كما يقول : للقائد عيسى بن عمر، والذي يصفه (بالقائد الكبير أو العظيم le grand caïd ) وبأحد رجالات المغرب وبأن إدارته "أكثر استنارة admin. Plus éclairée"، ثم يضيف أن أكثر سكانها يسكنون بيوتا صلبة مع وجود نوالات ويتجمعون في مداشر أو دشور، وفيما يخص نشاطهم الفلاحي، فيذكر أنهم يستغلون كل أرضهم في فلاحة كثيفة، فلن تجد عندهم أراض خالية من المزروعات ولا حتى شبر منها، مما يستشف منه، أن الفلاح العبدي كان أغنى من الفلاح الدكالي، وأحسن منه معيشا واستقرارا وأقل استغلال من قبل القياد.

ولا شك أن الإنتاج الفلاحي الكبير ببلاد عبدة والذي يزيد عن حاجيات سكانها، كان سببا في ظهور وبروز ميناء أسفي وشهرته في الآفاق، وفي ارتياده من قبل السفن الفينيقية والقرطاجية وبعدها الأندلسية والإيطالية والبرتغالية والفرنسية والبريطانية والهولندية والألمانية وغيرها، فكانت هذه السفن تقبل على هذا الميناء رغم وعورة الرسو فيه، لشراء سلع فلاحية متعددة حبوب وقطاني وماشية وجلود وأصواف الخ، وبعض هذه السلع الفلاحية كانت تمتلك بسبب جودتها شهرة عالمية، وحسبنا أن نذكر منها :

ـ القطاني، ومنها الفول العبدي، فهو رغم حبوبه الصغيرة، كان يعد أجود من الفول الضخم المنتج بالشاوية و دكالة، فالفول العبدي "يتوفر على درجة قوية من مادة الغلوتين البروتينية، ولهذا كان يقبل على شراءه وتصديره، وكذا الجلبان العبدي فرغم محدودية انتشار زراعته في الماضي، فإنه كان يتميز بجودة عالية من خلاله احتفاظه على لونه الأخضر اللامع.

ـ البيض، فالدجاجة العبدية الأصيلة كما يصفها أحد الفرنسيين، صغيرة الحجم وصبورة وجيدة البيض، بحيث كانت تعطي بيضا جيدا، بوزن 50 غرام في المتوسط للبيضة الواحدة، وقد وجدت بأسفي متاجر كثيرة لبيعه عرفت ب"هرايات البيض"، زد على ذلك، أن تجارة تصدير البيض التي كانت متمركزة بميناء الجديدة، كان تعتمد كثيرا على بيض عبدة.

ـ العسل : كان العسل العبدي مضرب المثل في العالم، وقد وجدت شخصا في القديم من أمريكا اللاتينية يفاخر بأن عسل بلدته في مستوى جودة عسل أسفي.

ـ الشموع : الشموع المصنوعة من شهد العسل العبدي كانت لها هي الأخرى شهرة عالمية منذ القديم، فمستهلكيه من الأجانب كما يقول الأستاذ المرحوم عبد الهادي التازي، لم يكونوا معجبين فقط بقوة وصفاء نور شمع أسفي، وإنما أيضا وهو المهم، بالمادة العطرية التي كانت تنبعث وتفوح منه أثناء احتراقه، والتي مصدرها النباتات العطرية والطبية، التي كان يتغذى عليها نحل عبدة.

ـ الخيل : كانت بلاد عبدة مشهورة بإنتاج أجود الخيول جمالا وقوة وتحملا للمشاق، ويعزو السفير الفرنسي لويس دو شونيي ذلك، إلى ميل أهل عبدة إلى حمل السلاح(Chenier L. recherches historiques sur les maures, T. III,P.12. )، وكذلك إلى إتقانهم الفروسية والرماية والقنص، ويشتهر أن الخيول العبدية كانت مطلوبة في جميع الأسواق بالمغرب، وكانت هي أول من يباع فيها قبل غيرها، ويذكر المؤرخ البرتغالي المجهول أن جوادا هرما من عبدة، كان يقايضه التجار البرتغاليون في غينيا بخمسة وعشرين أو ثلاثين عبدا.