الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

ميلود العضراوي: التربية والأخلاق أولا، والتعليم ثانيا

ميلود العضراوي: التربية والأخلاق أولا، والتعليم ثانيا ميلود العضراوي
 

سنعيد النظر في كل شيء بعد عشر سنوات أخرى، وسنقول إن قطاع التعليم لم يحظى بالعناية اللازمة لأننا لم نتحسب جيدا أوضاعه السياسية والاقتصادية والثقافية وركزنا على الجانب النفعي في المقاربة. سوف نراجع كل شيء وندعي أن الحلول الجزئية للإشكاليات الوطنية الكبرى ذات البعد القومي لا يتم التعامل معها بالارتجال والتجريب. إذا لم يقيد لقطاع التعليم من ينتشله من الإفلاس الذي ينتظره خلال بضع سنوات قادمة، سوف نتراجع عن القانون الإطار الذي حدد المعالم القادمة لتعليمنا العمومي ، ومن المؤكد ان المقاربة التصحيحية لن تكون هي جدال اللغة الأساسية لتعليم المواد العلمية ، بل هناك حزمة من الاجراءات والوسائل لا يمكن اختصارها في نقطتين أو ثلاث لتشخيص الاشكالية المستعصية وتفكيك الصعوبة وبالتالي ايجاد الحل.

ان اشكالية القطاع مركبة ومتعددة الأبعاد وجوهرها سوسيو سياسي واقتصادي قبل كل شيء. هكذا سيقع عليها اجماع من قبل الذين يغيروا بحوافز انتفاعية مادية  والذين يغيروا بدوافع مصلحية والذين يغيروا تحت ضغط الإملاءات والإكراهات. سيترتب عن ذلك فعلا طرح الأسئلة التالية:

هل جاء مشروع المجلس الأعلى للتعليم بحل لهذه الإشكالية حقا ؟ هل القانون الإطار الذي وضع فيه الحل السحري لمعضلة التعليم سيصمد طويلا أم ينتهي في أول جولة للتجريب ؟ أم الحل يقتصر على إحلال لغة اجنبية محل لغة أم؟

الحكامة التعليمية الجيدة لم تحقق على مدى خمسين سنة والتدبير الجيد للقطاع لم يصل حتى الآن الى  تحقيق نتائج إيجابية وتجويد المنتوج . ولعل من بين عناصر هذه الحكامة الجيدة المفتقدة؛ قيمة التربية قبل التعليم في البرامج التعليمية العمومية وفي المقررات وإيجاد صيغة بيداغوجية وسيكولوجية فعالة لغرس قيمها العقلية والروحية في وجدان الأفراد والمجتمع معا. نريد ان نصل يوما إلى نخبة مثقفة محصنة معقلنة تعلي قيمة الأخلاق وتضعها فوق كل اعتبار وتمارس مهامها بضمير حي، ونظرا لما لهذه القيمة من ثقل في موازين الشخصية والنخبة التي تتشكل منها صفوة الحكماء التي تتولى تدبير الشأن العام، فإنه من المتجاوز التركيز في تعليمنا وتكويننا على المناهج الخاصة بتحليل النظريات والأفكار ومعالجة الإشكالات المجتمعية، خصوصا في قضايا تدبير وتسيير الشأن العام، دون ان يكون هناك حضور وازن لقيمة الأخلاق وتحكيم الضمير والتعامل مع الواقع والاشخاص بمعيار التساوي والتوازن. علينا ان نهتم بتلقين مفاهيم العقلنة والترشيد والتعاطي لشؤون الحكامة بالمنهج المادي والروحي معا، حيثيختصر العقلالتصور وديناميته الدهنية وملكات الإبداع والقدرة على التخطيط والامكانية والآليات ثم التنفيذ وتكون حصانته هي القيمة الروحية الناظمة للأخلاق والسلوكيات. نريد طبيبا نزيها ومهندسا سليم الطوية لا يغش واستاذا متوازن السيكولوجية ومثقفا حرا ومخلصا ورجل قضاء مستقيم ونزيهوحاضر الضمير ومسؤولا حكوميا لا يهمه الامتياز المادي والسلطة، بقدر ما همه الأول مصلحة الوطن نريد مسؤولا لا تستهويه الاغراءات ولا يظلم ولا يخون القسم ولا يرتشي ولا يحابي ولا يخشى في الحق شيئا ويضع مصلحة البلاد والعباد فوق كل اعتبار. فهل من سبيل لتحقيق قيم الفرد الانسانية العليا بواسطة تعليم قادر على تحقيق هذا المنجز الإنساني العظيم.

الأكيد إن هذا سؤال الكم أما سؤال الكيف، فتختصره مقاربة إصلاحية كبيرة ترتكز على تشكيل شخصية الفرد من منطلق أخلاقي يكون محور ديناميكية التلقين ورسالة التعليم الاولية؛ التي تشمل العقل الوجداني الذي يحتوي على القيم الروحية والأخلاقية التي ينبغي أن تشكل العمود الفقري في حزمة التلقين والتدريس والتكوين وتحتوي على العقل الصرف الذي يناجي الضمير المهني وقيمة الشخص الأخلاقية والسلوكية، تمارس القيم متطابقة مع الذات والمجتمع والواقع والفكر الذي تشكل عن طريق العلم والتعليم. هنالك يتحقق التصالح الكبير بين الخارجي والجواني في علاقة الشخص بعالمه. تلقين القيمة الأخلاقية والروحية للفرد تدعم الفهم الجيد لإشكاليات الحياة وتبني جيدا علاقة الفرد بالمجتمع وعلاقة المجتمع بالمكونات الحياتية الأخرى وتخلق تجانسا أكثر بين الظاهري والداخلي في كيان واحد، ونتيجته توازن في شخصية الفرد وتوازي وانسجام تامين، مما يؤثر على سائر مكونات المجتمع ويصنع كيان الأمة.سيكولوجية الشخص السليم هي القاعدة لبناء المجتمع الجيد ذي القوانين والمؤسسات الجيدة كما قال هيغل.

مسألة تخليق الفكر والوجدان وتحقيق القيمة الأخلاقية للفرد تنبى على أسس تربوية صرفة،يشتغل عليها الفكر والعقل والوجدان، لعل العنصرين الأولين طبيعيين وعاديين ولكن الوجدان له قيمته الروحية الحاضرة المؤثرة في الواقع، بقدر ما تكون عليه في خصالها وقيمها، بقدر ما تكون حال هذا الواقع وأوضاعه.وجدان سيء يعطي نتائج سيئة طبعا والوجدان الخير الحاضن للفكرة الجيدة والفهم السليم والكيفية المثلى للتنفيذ؛ يعطي نتائج جيدة، استحضارا للعلاقة المترابطة بين الفكر والثقافة والأخلاق. لربما هذا ما ينقص خارطة طريق إصلاح برامج التعليم ومقرراتها التدريسية في بلادنا .

بعض التقارير الدولية تتحدث عن “شرخ تعليمي” حقيقي تعاني منه المنظومة التربوية ببلادنا وأن "التلاميذ المغاربة يعيشون في عالمين تعليميين متوازيين"، تتحكم فيهما مستويات عدة اجتماعية واقتصادية كالقدرات المالية للأسر ونوعية المؤسسات والبرامج التعليمية. في أوروبا وأمريكا وآسيا تعتمد البرامج التعليمية على نظام التعليم العمومي الموحد، لأن ثقافة تلك البلدان وحسها الحضاري يفرضان أن تكون المدرسة العمومية والبرامج التعليمية الموحدة وسيلة للتطور الاجتماعي والثقافي لصهر الشرائح الاجتماعية في هوية ثقافية واحدة، وهي عندنا بسبب تشتت المناهج ونوع البرامج التعليمية وخصوصا في القطاع الخاص، على العكس من ذلك كله فقد صارت البرامج التعليمية تنتج الفوارق الاجتماعية وعنوان الامساواة، سواء بسبب الأصول العائلية أو بسبب المؤهلات السوسيو- اقتصادية للأسر، مما حدا بعدد كبير من الأسر المغربية ذات الدخل المتوسط إلى التعليم الخصوصي، على العكس مما حصل في جميع الدول التي نجحت في رفع رأسمالها البشري من خلال الاعتناء بالمدرسة العمومية وتشجيع التعاطي لها من كل فئات المجتمع بنسبة وصلت الى 100% وهي سياسة لم تؤخذ بعين الاعتبار في الاتحاد الأوروبي وحده ولكن عملت بها منذ وقت طويل دول آسيا الشرقية والهند وكوريا الجنوبية وسنغافورة وفنلندا وماليزيا، حيث تم التركيز على تعليم ابتدائي جيد لجميع الفئات الاجتماعية في المدرسة العمومية.