نظمت شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بتعاون مع مركز روافد للدراسات و الأبحاث في حضارة المغرب و تراث المتوسط " ومؤسسة فهارس لخدمات الكتاب، ندوة تكريمية للأستاذ كمال عبد اللطيف، وذلك يوم الأربعاء 14 ماي بمدرج الشريف الإدريسي قدمت خلالها العديد من المداخلات والشهادات تضمنها كتاب جماعي بعنوان: "التنوير أفقا " قدم له ذ. محمد نورالدين أفاية . تنشر "أنفاس بريس" النص الكامل لمساهمة الأستاذة خديجة شاكر التي أختارت لها كعنوان : "كمال عبد اللطيف : صدق الحضور و قوة التجاوز " .
السيدات والسادة
سعيدة بالمشاركة معكم في هذا الاحتفاء المستحق بالصديق العزيز، الأستاذ كمال عبد اللطيف، وممتنة للجنة التنظيمية على إتاحة هذه الفرصة أمامي للتعبير، عبر هذه الشهادة المتواضعة، عن تاريخ مشترك وصلة عميقة وصافية وقديمة أيضاً تجمعنا، وذلك وفاءً لصداقتنا وعرفانا بأفضالها.
سعيدة بالمشاركة معكم في هذا الاحتفاء المستحق بالصديق العزيز، الأستاذ كمال عبد اللطيف، وممتنة للجنة التنظيمية على إتاحة هذه الفرصة أمامي للتعبير، عبر هذه الشهادة المتواضعة، عن تاريخ مشترك وصلة عميقة وصافية وقديمة أيضاً تجمعنا، وذلك وفاءً لصداقتنا وعرفانا بأفضالها.
السيدات والسادة
تعرفت على كمال منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي، وبالضبط منذ أكتوبر 1968، حين التحق بشعبة الفلسفة المعربة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. وكنت آنذاك في السنة الثانية من مساري الجامعي وفي نفس الشعبة. لم أكن أعرف آنذاك بأننا كنا تلاميذ في نفس الثانوية، وأننا من خريجي مدارس محمد الخامس بالرباط، إلا فيما بعد، ولربما جمعتنا ندوة من ندوات الخميس التي كانت تنظم بقبة المدارس، دون أن نلتقي أو نأمل في لقاء، فالتمييز بين الفتيات والفتيان كان قائما وصارما ومتعسفاً في ثانويتنا القديمة.
كان كمال يجتاز مدخل الكلية برفقة صديقه عبد اللطيف زروال، وكنت أرى فيهما اللطيفين اللذين يغلب اللطف الغامر على اختلافهما البيّن، فبقدر هدوء زروال ووداعته وميله الخجول إلى الصمت، بقدر صخب كمال وابتسامته الدائمة المشرقة وأحاديثه التلقائية الصادقة، حيث يختلط الجد بالهزل والسخرية. كانا تلميذين في القسم الداخلي لمدارس محمد الخامس، وهناك توطدت علاقتهما لتستمر في الجامعة، وإلى ما بعد التخرج، إلى أن أنهاها القمع الشرس بمقتل عبد اللطيف زروال في سراديب التعذيب وأقبيته المظلمة إبان حملة الاعتقالات التي شملت تنظيمات اليسار بالمغرب في سنوات السبعينيات. وكانت وفاته نهاية مأساوية تركت بصماتها غائرة في نفوس رفيقاته ورفاقه وأصدقاء عمره القصير، وكمال منهم. كمال الذي يتقن إخفاء الأحزان والآلام في الأعماق، ويتجاوزها جميعا رغم أنها تحفر عميقا في الوجدان، فعبد اللطيف زروال الصديق والرفيق منذ الصبا عصيٌّ على النسيان.
تعرفت على كمال بحيويته وحضوره الأخاذ حين كنا نلتقي نحن طلبة شعبة الفلسفة، في باحة الكلية أو في حديقتها الخلفية وممراتها في الفترات التي تفصل بين الدروس والمحاضرات. ورغم تفاوت المستويات والسنوات، كان التداول في مواضيع الدروس وإشكالاتها وتصنيفاتها، وفي طرق ومنهجيات أساتذتنا الكبار، وفي بعض الطرائف والمطبات التي لم ينج منها بعضنا، هو ما يجمعنا ويوحد هواجسنا وانتظاراتنا المتنوعة. كنا حديثي عهد بنظام السنوات الذي بدأ التدريس به منذ 1967، عوض نظام الشهادات، فقد كان نظام التدريس يمر من مرحلة انتقالية، وكان من حسنات هذه المرحلة اللقاء مع طلبة هذا النظام القديم في نفس الفصول حين يتعلق الأمر بموضوع محوري وأساسي يتقاسمه النظامان.
ولم يكن شغف الدراسة واكتشاف عوالم الفلسفة والمنطق والأخلاق والسوسيولوجيا، ما يسري فينا ويشغلنا فقط؛ بل كان انخراطنا في نضالات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وانشغالنا بهموم الوطن وبمستقبله آنذاك، من أولويات انتمائنا إلى الجامعة المغربية الناشئة. وهكذا جمَعَنا ما كنا نحياه يوميا من آمال وأحلام وطموحات ووثق علاقتنا، وأدخلنا، وكنا ندري ذلك أو لا ندريه، إلى معترك الحياة مبكراً، وإلى مدارسها الصارمة المفتوحة على المفاجآت وعلى المنعرجات والتحولات، وكنا نعتقد أن مساراتنا الطلابية والمهنية مخططة مسبقا وفق نظام محبوك، تتحكم فيه حاجة الوطن آنذاك إلى مغربة الأطر في جميع المجالات؛ إلا أننا لم نكن نضع في حسباننا أن الكثير من الطوارئ يمكن أن تحيد بنا عن مساراتنا الموعودة أو أن تجعل إقبالنا على الحياة العملية والأسرية والمهنية أقل وهجا وإشراقاً وطمأنينة.
حُزنا إجازاتنا في الفلسفة، ودخلنا إلى الثانويات مُدرّسات ومُدرّسين لمادة الفلسفة، في بداية السبعينيات. وكانت صداقتنا قد انبثقت داخل جماعة طلبة وطالبات الفلسفة ونحن في الكلية، وترعرعت واستمرت داخل نفس المجموعة التي كانت أماكن العمل قد ساعدتها على البقاء متقاربة، ونمّتها روابط الصداقة بكل ما تحمله من ألفة وقرب وودّ وتقاسم. وأجدني وأنا أستعيد هذه الفترات من تاريخنا، وهو جزء من تاريخ المغرب، لا أستطيع الابتعاد في حكْيي عن هذه المجموعة التي التقى عناصرها بدايةً وهم يحيون أجمل سنوات أعمارهم، يحدوهم الطموح والحماس والاكتشاف، واستمرت علاقتهم إلى اليوم، ونمت وتوطدت مع مرور السنين. فقد تشاركنا حفلات الأعراس البسيطة، ونحن نبني أسرنا الصغيرة، وتقاسمنا فرح ميلاد البنات والأبناء، وتتبعنا مساراتهم الدراسية، ولم تكن تخلو لقاءاتنا الجماعية من حضور أطفالنا الصاخب. وقد كنت أشاهد تعجب بناتنا وأبنائنا فيما بعد، حين يعلمون بأننا كنا زملاء دراسة، وأن صداقتنا القديمة اتخذت طابعاً أسرياً بفعل الزمن، ويقارنون بدهشة بين حالنا وحالهم مع زملاء دراسة كانوا مجرد عابرين. لذلك لن أدعي أن بإمكاني عزل صداقتنا، كمال وأنا، عن هذه المجموعة التي أكن لها كل المحبة والود، وكمال يعرف ذلك ويعيشه ويقدره، فقد تقاسمنا لحظات مفرحة وأخرى محزنة ونحن داخل المجموعة، وتبادلنا الكثير فيما بيننا بحرص كبير على وجود الجميع، وإن غاب عنصر منها مؤقتا، فنحن نستحضره لزوما.
لقاءاتنا المنتظمة كانت ممتلئةً أسئلةً تقلقنا وتتحدانا، يلهبها شغف جديد يسري فينا كمدرسات ومدرسين للفلسفة في الثانويات المغربية، كنا بين الإيديولوجيا والبيداغوجيا، كانت النقاشات ملتهبة، والتجارب ملهمة، وكان كمال يحكي اكتشافاته وتجربته في الثانوية مع تلامذته بفخر الناجح ونشوة المنتصر. لم تساعدنا دروس التربية والبيداغوجيا التي تلقيناها بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط إلا لماما، وكان على كل منا أن يبني تجربته في التدريس وأن يكوّن نفسه بنفسه، أن يصيب أحيانا ويخفق أخرى. وكان كمال معتزا بنجاحه وتعثراته، ولم يكن يخفي بصدقه المعهود عثراته، على خلاف بعضنا، وحين يتحدث عن إنجازاته، يصبح إنجازا جماعيا ومحمودا. وهكذا تتحول الجلسات الحميمية للأصدقاء والصديقات، وأطفالنا يتحركون بيننا بشغبهم المحبب، إلى دورات تكوينية تلقائية لا يحكمها إلا السعي الدؤوب إلى اكتمال دروسنا "الفلسفية". وكان كمال بيننا مشاركا فذاً، يجادل ويناقش كما كان يبتكر ويبدع وأحيانا يسخر ويمدح. صدقُه في كل ذلك يشفع له، فالصدق من طبيعته التي اعتادها منه أصدقاؤه وأقرباؤه، وميزة فيه بل فضيلة لم يتباه بها قط أو يفخر. ولم نكن ندري أنه ومنذ ذلك الآن، يؤسس لاهتمام لن يفارقه، ولمهمة يقبل عليها بكل محبة: وهي تدريس الفلسفة. وكان الجو العام بالثانويات آنذاك يساعدنا كثيرا، وكنا نُخصب وعيَ تلامذتنا المتعطش والمتحمس بمعارف جديدة وبجدل غير معهود وبحرية مفتقدة.
في هذه الفترة، عرفت الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة أوج تأثيرها وحضورها الفاعل، وانخرط المدرسون والمدرسات فيها لتبادل خبراتهم المتراكمة، ومطالعاتهم الفلسفية المتجددة، ولمواصلة تكوينهم التربوي والبيداغوجي. كانت الجمعية مشتلا مزهرا ومنبتا للطاقات الواعدة التي ساهمت في ربط الأواصر وخلق الصداقات ورعاية المبادرات المجددة، كما أنها ساهمت بدورها في مد الجامعة بأجيال جديدة من أساتذة الفلسفة. وكان كمال مثلنا، من الأوفياء للجمعية ومن أعضائها العاملين.
شق كل منا طريقه العلمي والمهني، ولم نسر في طريق موحد أو متشابه، ورغم اختلاف الاختيارات والتوجهات والمسارات؛ ظل احترام اختلافنا قائما، كما بقي الوفاء لما جمعنا سابقاً ويجمعنا حالياً، حاضراً وقوياً.
ويستمر لدى كمال الاقتناع بالفلسفة وبضرورتها منذ لقائه الأول بها في قسم البكالوريا مع الأستاذ أحمد السطاتي إلى اليوم، تُغذي هذا الاقتناع أبحاثُه ومؤلفاته الغزيرة كما تُوسّعه التحولات المتسارعة لعالم اليوم.
أتذكر عملا تربويا وبيداغوجيا خاصا بتدريس الفلسفة داخل لجنة، جمع بيننا في أواسط الألفية، استمر لمدة زمنية كانت كافية لتأكيد حرصه ومعاينة صرامته والاستفادة من ملاحظاته الثاقبة. لم يكن عمل هذه اللجنة سهلا، وقد مر من مرحلتين وعبر سنتين متتاليتين، انسحب بعض الأعضاء وغضب آخرون، وظل كمال حكيما ومنصتا لكل الأصوات، ملتزما بالمعايير وأمينا في الأحكام. وكان يشجع على الصراحة في التواصل وعلى الصدق في العمل والموضوعية في الاستنتاج. أستعدنا معاً نقاشاتنا السابقة حول تدريس الفلسفة وإن اختلفت المواقع وتغيرت الأحوال، فوجدت فيه نفس الأستاذ الشغوف بعمله، نفس المحارب المخلص والمدافع عن قيم الحرية في التفكير وفي التعبير مهما كان ضغط المؤسسة، ومهما بلغ استبدادها وإرادتها في إخضاع طرق ومنهجيات تقاسم المعارف الإنسانية المتحررة، لسلطتها وتسلطها.
ظل كمال وفياً لقناعاته ومبادئه بقدر وفائه لأصدقائه، وهو بجرأته وبصدقه الجارح أحياناً، خاصة لمن لا يعرفه عن قرب؛ كتابٌ مفتوح لا تنغلق صفحاته المليئة بين الدفتين، بل تُطوى وتتتابع بلهفة وحرص. يتشارك مع الصديق همومه وهواجسه معرفية كانت أو مهنية أو خاصة، لا ينتظر مقابلا أو يستجديه بل إنه في بوحه الصادق يوثق روابط الصداقة الكاملة، بتعبير أرسطو، ويبتغي الخير للصديق ويتقاسمه معه.
صِدق حضوره في كل المناسبات وفي كل المقامات لافت ومبهر، تجده دائم السؤال عن الأصدقاء، متتبعا لأخبارهم مواسياً لأحزانهم ومبتهجا بأفراحهم. وحين كان يمر من وعكة صحية صعبة، أثقلنا القلق وخيم علينا التوتر وساد بيننا الترقب والانتظار. فكان أشجع منا بقوته الداخلية وبمقاومته الأسطورية وحقق تجاوزه المعهود للآلام بنفيه لها مهما اشتدت عليه، وبجعلها موضوعا للتفكير وعقلنتها. هذه القوة لا يمتلكها الكثيرون لمواجهة التغيرات الجذرية التي تطال العادات المترسخة، ولمرافقة آلامها وأوجاعها المضنية. وكم كان كمال بليغا وهو يتحدث عن "اليد الأخرى" أمام الملأ، ذات لقاء بالمكتبة الوطنية بالرباط، كان حديثه بليغا حد الألم، كنت أنصت إليه وأنا متوارية بين الحشود، وكلي ألم وأسى، لكن إعجابي بقوته وصلابة مقاومته حوّل الألم أملا في التحرر ورغبة في التجاوز وإرادة للنفي.
ركبنا معه فعلا مراكب الأمل وانتظرنا الفرج، وقد أدهشنا كمال بقوة تجاوزه للمواجع المقيمة والقاسية من خلال كتاباته الغزيرة، وراهنية مواضيعها، أذهلنا بتحدّيه للآلام الخانقة وهو يواصل حضوره المباشر في المنابر الثقافية المغربية والعربية أو عبر مقالاته المنتظمة في المجلات والدوريات، واستمر يزرع مراياه المصقولة وبجرأته المعهودة أمام قضايانا وقضايا العالم ومشاكله، لننظر فيها بعين العقل وبحس الفلسفة، ويصر على كشف ما نسعى إلى التغاضي عنه أو إلى التآلف معه . فكيف يمكن أن يسقط القلم من يده وهو الذي تحييه الكتابة؟ وكيف يمكن أن تعييه السبل إليها وهي امتداد الذات وبهجة الوجود في قلب العالم وفي قلوب الناس وعقولهم؟
كل تلك الاختبارات القاسية التي مرّ بها، وكل ذلك التحدي الذي يواجهها به؛ جعله قدوة في الصبر والجلد والمجاهدة، شجاعا غير هياب. لم يرض يوما تغيير عاداته ولا نكران هواياته، وحين يعزم على شيء لا تعوزه الطرق إليه مهما صعبت أو ظهرت لنا غير ممكنة. يقدم لنا في كل لحظة دروساً في محبة الحياة وفي مواجهة المستحيل، وهو الذي لم تكن الفلسفة بالنسبة له مجال تدريس وبحث فقط، بل كانت أسلوب حياة ونمطا يبني به العلاقات الإنسانية التي كان يرعاها ويصونها بكل قوته وبعميق صدقه. إنه الصديق الذي نتقاسم معه وجودنا ويتقاسم معنا وجوده، الصديق المختلف والذي يمكن أن يكون أحياناً مثيلا وشبيها، قريبا وبعيدا، حاضرا وغائبا. الصديق الذي يؤمن بحريتك ويسعى إلى أن تكون على سجيتك وأنت تبادله الحديث أو تتشارك معه المكان. كمال صديق الجميع و" الخيط الأبيض" الذي يتدخل حين تندلع النزاعات فيسعى جاهدا لإخماد شراراتها لينعم بالسلام والطمأنينة ولينثرهما حوله بردا وسلاما.
في حديث لي معه مؤخراً، سألني عن آخر قراءاتي في الأدب وخاصة في القصة والرواية، وكثيرا ما نتبادل هذا السؤال الذي يفتح أمامي غالبا من خلال إجاباته، عوالمَ جديدة من السرد والتخييل تُغني مطالعاتي، وهو لا يعرف كم أستمتع بقراءاته العميقة للروايات مغربية كانت أو عربية، حيث يكشف بحسه الفلسفي المخابئ و"التوْريات"، ويقدم بلغته العربية السلسة صورة مختلفة تيسّر الولوج إلى عالم الروائي الأديب وإلى رسائل الرواية المتوارية. ولا زلت أنتظر، وغيري كثيرون، روايته الخاصة التي وعدنا بها منذ زمن، وتتملكني اللهفة إلى الإمساك بها بين يديّ.
واصل يا كمال العزيز التحلي بصدقك الأصيل في حضورك الأخاذ، وتابع رعاية قوتك المذهلة للتجاوز، ولتدم لنا قدوة في محبة الحياة وفي الوفاء للأصدقاء.