الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الله جبار: الهجرة بإيطاليا.. والتداول الإعلامي

عبد الله جبار: الهجرة بإيطاليا.. والتداول الإعلامي عبد الله جبار

نتطرق في هذه المقالة إلى موضوع يكتسي أهمية بالغة بالنظر إلى دوره الكبير، بل الخطير في تغير الآراء وإعادة توجيه تفكير الأشخاص وتحليل القضايا، وبالنتيجة تشكل المواقف والقناعات؛ إنها وسائل الإعلام كأداة قياس وزن أوضاع المجتمعات وسلطة قوية مؤثرة؛ فكيف يتناول الإعلام الإيطالي مسألة الهجرة؟ 

في الحقيقة سنكون قد تجاوزنا ما يكفي من المبالغة إذا قلنا إن وسائل الإعلام الإيطالية لم تقطع شوطا طويلا نحو ثقافة الاختلاف والتعايش مع "الآخر". بدليل ما تنقله للقراء والمشاهدين من أحداث يتم التعامل معها بانتقائية كبيرة خدمة لأهداف بعينها، حيث يتم التركيز على قضايا منتقاة كحملات الإنذار بمناسبة هبوط المهاجرين غير الشرعيين على السواحل الإيطالية؛ التشويه في عرض الأحداث التي يشارك فيها مواطنون أجانب من دول خارج الاتحاد الأوروبي؛ العلاقة بين الإسلام والإرهاب؛ معادلة الهجرة = الجريمة التي تم تنظيرها في عام 1999؛ حتمية عدم التسامح تجاه ما هو مختلف في حين لا يعتبر وجود المهاجر "الآخر" أبداً تقريبا أحد الموارد. بل في العديد من المناسبات يعتبر تهديدا أو تدخلا في الحياة الاجتماعية والثقافية والتعايش بين السكان الأصليين. فهي لا تنظر إلى المهاجرين كأشخاص يختلف بعضهم عن البعض الآخر إنما هم كتلة واحدة من الأفراد الذين لا يمكن تمييزهم، والذين يضغطون على الحدود. من ناحية أخرى، عندما تقترب عدسة الصحفيين من المهاجرين، فإنها غالباً ما تفعل ذلك فقط بهدف إثارة الخبر وبغية نسج القصص المثيرة للاهتمام بشكل يوجه الرأي العام، خاصة عندما يكون الأطفال في قلب الصورة أو عندما يموت المهاجر أو يفشل في السعي وراء حلم الخلاص.. في المقابل تعرض معظم المقالات في الصحافة صورة المهاجر المسكين، مجبرة على ذلك قبول وظائف منخفضة المهارات والبقاء على قيد الحياة بفضل خير الإيطاليين. باختصار، ما زال التقليل من شأن المساهمة الاقتصادية للأجانب رغم أن المعطيات الإحصائية الصادرة من أكثر من مصدر تبرز حقائق هامة، حيث يشكل المهاجرون 8.3٪ من السكان الإيطاليين، أي ما يعادل 5 ملايين شخص. تساهم بـ 127 مليار يورو من الناتج المحلي الإجمالي الإيطالي، أي 8.6٪، ويدفعون ما قدره 11 مليار كضرائب ويساهمون ب7 مليار في صندوق الضمان الاجتماعي مما يسمح عمليا بدفع 640 الف معاش للإيطاليين؛ لذلك، من وجهة نظر اقتصادية، فهي صفقة مربحة بالنسبة لإيطاليا.

إنها أرقام لا يمكن القفز عليها عندما نتحدث عن الهجرة، بل يجب أخذها بعين الاعتبار؛ إذ لا يمكن النظر إلى ظاهرة الهجرة فقط كحالة طوارئ؛ وبالتالي كعنصر مؤقت، ولكن كمكون من مكونات المجتمع الإيطالي الذي أصبح وجهة استقبال منذ ما يقرب  ثلاثين عامًا؛ منذ أن فرضت ظاهرة الهجرة أبعادًا مهمة في هذا البلد.. مما أفرز تمثيلا يتم من خلال تقديم الهجرة على الساحة العامة كمشكلة خاصة، أي مشكلة النظام العام. لقد أنتج هذا التمثيل لظاهرة الهجرة تفاقم المشاعر المعادية للأجانب والتمييز والعنف ضد المهاجرين ونسج روايات مختلفة تجاههم. رواية من هذا النوع ليست ضارة فقط بالسكان الأجانب، ولكن بالنسبة للبلدان المستقبلة نفسها.. فهي تدخل الكل في دوامة من الخوف والشعور بالكراهية والتعصب، يجازفون بإغفال مدى تعقيد هذه الظاهرة ونطاقها أيضا من حيث القيمة المضافة. ومن الجدير بالاهتمام أن الهجرات هي في الواقع مكون هيكلي في عصرنا، وجزء من تاريخ البشرية بأكمله كما أنها ظاهرة لا يمكن عكسها وفق مقياس وحيد قصد تغيير مسارها التاريخي، على الرغم من أنها ليست خالية من التكاليف بالنسبة للمهاجرين وللمجتمعات المضيفة، ولكن أيضًا لإمكانيات فرص التقدم والنمو المشترك الذي تنتجه، سيما في عصر العولمة.

ومما يزيد من تعقيد الموقف هو أنه إذا كان المجتمع الإيطالي أصبح أكثر وعيا بحساسية الملف وبالمشاكل المرتبطة به، وبالتالي البحث المتزايد عن الوسائل الناجعة لمواجهته عبر طرق مختلفة، فإن كل هذه المحاولات قد تأثرت بفعل النفود المتعاظم لوسائل الإعلام التي تجاوز دورها دور الأحزاب في رسم معالم السياسات..

إن الصحف والتلفزيون والإذاعة لا تحاول إجراء بحث في كنه الأشياء وتفكيك مختلف التناقضات التي تحول دون التوصل إلى الحقائق المختلفة. فهي تتطرق إلى الأحداث وتهملها وتتعامل معها بشكل سطحي لا ينفذ إلى عمق الاشياء.. فهي تعتمد على مشاعر الأنانية، حتى لا يشعر القراء والمستمعون بما قد نسميه الألم والمعاناة التي تقف وراء تيارات الهجرة. إنهم يقتصرون على وصمها بطريقة شوفينية نموذجية. إلا في حالات نادرة جدا هناك بعض وكالات الأنباء التي تسعى إلى إعطاء صورة ذلك المجتمع المتسامح، المحترم لخصوصية الاخر، لإيجاد أشكال التعايش المتعدد الأعراق.. إن وسائل الإعلام لا يتم تعبئتها بالأدوات المعرفية والمرجعية المتاحة لتضع هذه الظاهرة في سياقها التاريخي والاجتماعي قصد تحليل دقيق لمساراتها، والتي أصبحت اليوم ظاهرة عالمية، من أجل إعادة تركيب موضوعي لصورة الهجرة بعيدا عن السرد الذي يغيب جوهر المعضلة ويساهم في رسم صورة مضللة تخدم أطراف بعينها، سيما وأن المسألة أصبحت ورقة ربح انتخابي وقنطرة عبور لليمين والشعبويين المعادين للمهاجرين. اليوم نحن بحاجة إلى تغيير مفهوم التنوع وإعطائه رؤية أوسع يقطع مع سلبية مقارنة ثقافة الآخر، مع الثقافة المحلية، لتجنب المساهمة في أشكال التمييز أو الإقصاء؛ لذلك من المناسب أن نرفض استخدام ثقافة الانتماء الخاصة بنا كمقياس تجاه الآخرين، وبدلا منها فتح عنصر التنوع وتقييم الفرص الناشئة عن مجتمع متعدد الأعراق.

نخلص من ذلك إلى أن وسائل الإعلام والتثقيف المسموعة والمرئية قد لا تعكس الصورة الحقيقية لواقع الهجرة؛ ولذلك فلابد من الاهتمام والتطوير المستمر للبرامج والمواد الإعلامية، لأنها مسؤولة مسؤولية مباشرة في هذا المجال للقيام بمهام التحفيز وإعداد المجتمع لتقبل الآخر والتعامل معه بإنسانية، كما ينبغي أن تتغير مفاهيم التعاطي مع الهجرة، وأن يؤمن الجميع، حتى أولئك المترددون بأهمية دورها في جميع مناحي الحياة وقدرتها على إغناء المجتمعات المحتضنة لها بثقافات وعادات تساهم في الرفع من المستوى الحضاري للأمم.

- عبد الله جبار، باحث في قضايا الهجرة، إيطاليا