الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

جورج أبو الزلف: في اليوم العالمي لحقوق الإنسان ..... نحو رؤية جديدة لتصويب المسار

جورج أبو الزلف: في اليوم العالمي لحقوق الإنسان ..... نحو رؤية جديدة لتصويب المسار

منذ أن أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر من العام 1948 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وحتى يومنا هذا، جرت العادة أن تقام الاحتفالات والمهرجانات الخطابية والندوات والمؤتمرات للاحتفال بهذا اليوم للتذكير بقيم الحرية والمساواة في الكرامة والحقوق بين بني البشر. لقد دشن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ووضع حجر الأساس، لمنظومة حقوق الإنسان الدولية وأسس لمرحلة جديدة وعهداً جديداً لبني البشر، وعلاقاتهم الإنسانية، قائماً على أساس المساواة والعدالة والعمل المشترك نحو ترجمة هذه الحقوق وتحويلها من مجرد نصوص الى واقع ملموس للجميع دون استثناء. وفي مسيرة نضالنا الطويل نحو تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها، قدمت حركة حقوق الإنسان العالمية آلاف الضحايا الذين دفعوا حياتهم ثمناً من أجل سيادة مفاهيم وقيم حقوق الإنسان. ولم تكن تلك التضحيات سوى الوقود الذي يشحذ الهمم ويضيء مسيرة كل المدافعين عن حقوق الإنسان الذين حملوا الراية وواصلوا المسير الى يومنا هذا.
واليوم، ربما لا يختلف إثنان، أن مسيرة حقوق الإنسان تتعرض لانتكاسة كبيرة، فالدول والحكومات التي كان من المفترض أن تكون مؤتمنة على الحقوق إستلّت سيفها وطعنتها في الظهر. فمنذ عدة سنوات تحول المسار المتصاعد لحركة حقوق الإنسان الدولية الى الانحدار والتقهقر، وإذا لم تجرِ معالجة حقيقية وفعّالة ومبنية على أساس الحقوق المتساوية لبني البشر لهذه الأزمة، والتي هي أزمة قيم ومبادىء في الاساس، فإن الأمور ستستمر في الإنزلاق نحو الهاوية، وربما تؤدي الى نتائج لا تحمد عقباها، ولا أجافي الصواب لو قلت أنه ربما ستكون آثارها أسوأ بكثير على الإنسان من آثار الحرب العالمية الثانية التي ولد على أنقاضها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وفي هذا المقال سأحاول تسليط الضوء على أبرز معالم هذا الانحدار، وآثاره السلبية على حالة حقوق الإنسان حول العالم وفي منطقتنا على وجه الخصوص، وكذلك طرح رؤية لمواجهته ومعالجة آثاره.
ولعل العنوان الأبرز الذي ينضوي تحته كافة مظاهر هذا الانحدار، يتمثل في إنهيار منظومة القيم والمباديء والأسس التي بني عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومن بعده الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وإعلان وبرنامج عمل فينا عام 1993. وللتذكير، فيمكن حصر منظومة القيم والمباديء لحقوق الإنسان بالأركان الثلاثة التالية:
1. أكدت ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان "بوصفه المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن تبلغه كافة الشعوب وكافة الأمم" على "الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة"، واعتبر ذلك أساس "الحرية والعدل والسلام في العالم". والمادة الاولى في الإعلان أكدت على أن "جميع الناس يولدوا أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وُهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يُعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء". كما أكد ميثاق الأمم المتحدة على هذه المبادىء وعلى الايمان "بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية" وكذلك أكد الميثاق على نشر قيم التسامح والسلام. كما أكد اعلان وبرنامج عمل فينا على "تطلعات جميع الشعوب إلي نظام دولي قائم على أساس المبادئ المكرسة في ميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك تعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع واحترام مبدأ المساواة في الحقوق وتقرير المصير للشعوب، والسلم والديمقراطية والعدل والمساواة وسيادة القانون والتعددية والتنمية وتحسين مستويات المعيشة والتضامن". إذن، تعتبر قيم الحرية والكرامة والعدل والسلام والتسامح والتضامن والإخاء من المباديء الأساسية التي بنيت عليها منظومة حقوق الإنسان، ويعتبر مبدأ المساواة في التمتع بحقوق الإنسان، دونما أي شكل من أشكال التمييز، الإطار الناظم لهذه المبادىء.
2. المبدأ الآخر والذي لا يقل أهمية عما سبق، هو التأكيد على عالمية حقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة، وترابطها الوثيق واعتمادها عل بعضها البعض. إذ خاطب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان "جميع أعضاء الأسرة البشرية" بدون أية استثناءات، كما أكد إعلان وبرنامج عمل فينا على أن "جميع حقوق الإنسان عالمية وغير قابلة للتجزئة ومترابطة ومتشابكة، ويجب على المجتمع الدولي أن يعامل حقوق الإنسان على نحو شامل وبطريقة منصفة ومتكافئة، وعلى قدم المساواة، وبنفس القدر من التركيز".
3. نشر قيم السلام والمحبة والتسامح ورفض الحروب والنزاعات المسلحة لما لها من آثار مدمرة على البشرية جمعاء. إذ تشير ديباجة ميثاق الأمم المتحدة الى تصميم المجتمع الدولي "على إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب، وتهيئة االظروف التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة .... والمضي بالرقي الاجتماعي قدما، ورفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح، وممارسة التسامح وحسن الجوار ..... والتقدم الإقتصادي والإجتماعي للشعوب جميعها". كما أشارت ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الى أن "تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني" وأن غاية ما يرنو إليه عامة البشر هو "التحرر من الفزع والفاقة". لقد وقفت دول العالم، بعد الحرب العالمية الثانية، وقفة جريئة أمام ذاتها وقطعت على نفسها عهداً بطيّ صفحة الحروب والاستعمار، ونادت بحق تقرير المصير للشعوب المستضعفة، والتزمت ببناء عهد جديد من السلم والاخاء والتسامح.
السؤال الكبير الذي يطرح نفسه اليوم هو: أين نحن من هذه الأركان الثلاثة؟ هل يمكن اعتبار هذه القيم والمباديء هي التي تحكم العلاقات الدولية في هذه الأيام؟ كيف يمكن لنا إعادة تصويب المسار وإعادة الاعتبار للإنسان وكرامته وحقوقه المتساوية؟
للإجابة على هذه الأسئلة، وغيرها الكثير من الأسئلة التي تتلاطم كالأمواج العاتية، لا بد من وضع موضوعنا في سياقه الطبيعي وتوضيح أبرز معالم الانحطاط الأخلاقي والقيَمي الذي يحكم عصرنا الحالي، ما قد يمكننا من طرح مجموعة من الأفكار للنقاش علّها تساهم في إعادة تصويب المسار. وفي هذا السياق، أذكر المعالم التالية:
1. بروز وصعود تيارات متنامية في الغرب تحديداً، تطرح خطاباً شعبوياً شوفينياً ديماغوجياً، يرفض الآخر ويستخدم لغة عصبية وتضليلية وتحريضية في الخطاب الإعلامي، لتأجيج المشاعر واستقطاب أوسع قاعدة جماهيرية للإستحواذ بالسلطة وفرض الهيمنة على الآخر. تكمن خطورة هذه التيارات في أنها تمكنت من الإستحواذ على السلطة في بعض البلدان وتتأهب للانقضاض عليها في بلدان أخرى، بما قد يعنيه ذلك من الانقضاض على حقوق فئات كثيرة من البشر كالأقليات والمهاجرين واللاجئين وغيرهم. وما يدعو للقلق هو تبجح هؤلاء بأهمية استخدام أساليب لا إنسانية في التعامل مع الفئات المذكورة كالتعذيب وتقييد الحرية والطرد وبناء الأسوار وغيرها.
2. إنتشار غير مسبوق لخطاب الكراهية والتحريض على العنف، وهذا ما لعب وما زال دوراً مدمراً في صب الزيت على النار وتأجيج الصراعات واذكاء نار الفتنة التي تحرق الجميع وتقضي على الإنسان. وهذا هو حال العديد من دولنا العربية في هذه الأيام، وللأسف الشديد، فقد غاب الاعلام المهني والمسؤول وغاب الحكماء وأصحاب العقول، وانتشرت الفوضى والعنف في كل مكان.
3. وارتباطاً بالبند السابق، انتشر الخطاب المذهبي والطائفي وغابت لغة الحوار والتسامح وحل محلها لغة القتل والتكفير والابادة. وفي ظل غياب الحكماء، إعتقد الكثيرون أنه بإمكانهم إلغاء الآخر ومحوه من الذاكرة والتاريخ، متناسياً أن قيمة وجمالية عالمنا العربي تكمن في تعدد أطيافه ومكوناته والتاريخ والمصير الواحد.
4. ان المدنيين والأبرياء هم من دفع وما زال يدفع الثمن الأكبر للحروب والنزاعات المسلحة واستخدام لغة القوة. وان نجحوا في الهروب من الحروب، تحولوا الى نازحين ومهجرين وأيضاً لاجئين يبحثون عن ملاذ آمن وطمأنينة. وإذا أسعفهم "الحظ" ولم تبتلعهم مياه البحر، ونجحوا في العبور الى الضفة الأخرى، يُواجَهون بالتمييز والكراهية، وتُغلق الأبواب في وجوههم. أيّ إنسانية هذه التي تغلق الأبواب في وجه طفل يبحث عن دفءٍ وأمان؟
5. غياب المساءلة والإفلات من العقاب. إن الأمل الوحيد للضحايا في العادة يبقى في حقهم في معرفة الحقيقة وتحديد المسؤولين عن معاناتهم ومن اغتصبوا حقوقهم ومن ثم تقديمهم للعدالة. بعد أن أبصر ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية النور، استبشرت الشعوب المستضعفة بالخير وخلق هذا التطور التاريخي لديها الأمل بأن العدالة آتية لا محالة، وأن كل من سولت له نفسه المس بحقوقهم ستطاله يد العدالة ولن يفلت من العقاب. للأسف الشديد فحتى هذا الأمل قد بدأ يتلاشى، ولربما تلاشى بالفعل بعد حملة الانسحابات من المحكمة الجنائية الدولية، ووقوفها عاجزة أمام العديد من ملفات جرائم الحرب في العصر الحديث.
6. تراجع وإضمحلال الهامش الديمقراطي، وتصاعد سياسات تكميم الأفواه وتقييد الحقوق والحريات العامة، وملاحقة نشطاء ومنظمات حقوق الإنسان والزج بهم في السجون بذرائع مختلفة.
7. غياب الحياد والمصداقية والشفافية في التعامل مع ملفات انتهاكات حقوق الإنسان. لقد أصبح واضحاً وجلياً لكل المتابعين بأن قضايا حقوق الإنسان يجري تفصيلها على مقاسات محددة لتناسب أطرافاً بعينها، وهذا خلق حالة استقطاب شديدة وانقسام عامودي داخل المجتمع الدولي في التعامل بأنتقائية مع قضايا حقوق الإنسان، وأصبحت الدول المتنفذة تلعب دوراً أساسياً في "حماية" حلفائها من الملاحقة القضائية، إذ ليس من الغريب أن ينتشر في أيامنا هذه مصطلح جديد اسمه "دولة فوق القانون" ومحصنة من النقد والمساءلة كونها تتمتع بنفوذ دولي كبير أو أنها من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وتستطيع تمرير أو حجب ما تشاء من القرارات.
8. والأسوأ من هذا كله، هو أنه حتى العديد من منظمات المجتمع المدني والمنظمات الاقليمية العاملة في مجال حقوق الإنسان تأثرت بشكل سلبي للغاية من حالة الاستقطاب السائدة وأصبحت مصداقيتها وموضوعيتها ومهنيتها على المحك العملي، إذ أن العديد منها تأثرت بحالة الاستقطاب السياسي والمذهبي وأضحت تدافع عن فئة محددة وتغض الطرف عن الفئة الأخرى، طبقاً لمصالحها الضيقة، وبالتالي أصبحت منظمات سياسية وبعيدة كل البعد عن قيم حقوق الإنسان. فحقوق الإنسان هي حقوق كل البشر بدون أية استثناءات.
لا أريد أن أرسم صورة قاتمة، ولكن من لا يستطيع أن يرى الحالة التي وصلنا اليها فهو إما أعمى أو يتعامى، ولكن في غمرة هذا الظلام لا بد لنا أن نتذكر دوماً بأن هنالك رجالاً ونساءاً أشداء، ما زالوا يحملون الراية، ويؤمنون بأن ما من جزر الا وبعده مدّ، وسيسطع مجد الحقوق مرة أخرى وسنعيد الاعتبار لحقوق الناس جميعاً.
بعد 68 عاماً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومع جملة التحولات الكبيرة التي يشهدها عالمنا المعاصر، أجد لزاماً عليّ أن أوجّه كلمتي هذه الى كافة المدافعين عن حقوق الإنسان، في كل مكان، والذين ما زالوا يؤمنون ومتمسكون بالأسس والمبادىء التي ارتكز عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ودعوتهم للتوحد والعمل سوياً على ما يلي:
أولاً: إعادة الإعتبار لقيم ومبادىء حقوق الإنسان، المستمدة أصلاً من الشرائع السماوية، والعمل على نشرها والترويج لها وتبني خطاب مبني على أساس حقوق الإنسان كبديل لخطاب الكراهية والعنف والتحريض ورفض الآخر.
ثانياً: الدعوة لعقد مؤتمر دولي لحقوق الإنسان لتقييم مسار ووضع حقوق الإنسان حول العالم بعد المؤتمر الدولي الذي عقد في فينا عام 1993، والذي نتج عنه إعلان وبرنامج عمل، إذ يبدو جلياً أن العالم قد تخلى فعلياً عن هذا البرنامج. ان عقد هذا المؤتمر يهدف الى تقييم التقدم المحرز على صعيد برنامج عمل فينا وتبني برنامج عمل جديد، يعيد الامور الى سياقها الطبيعي.
ثالثاً: تأسيس أوسع حركة ضاغطة من كافة النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان من كل مكان حول العالم وبرعاية مفوضية حقوق الإنسان، تكون من أبرز مهامها تذكير حكومات العالم بما التزمت به في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة، ودفعها الى تحمل مسؤولياتها الدولية واحترام المبادىء التي على أساسها أنشئت الأمم المتحدة.
لا شك أننا نواجه في هذه الأيام تياراً جارفاً يريد أن يعيدنا عقوداً الى الوراء، فطوبى لمن يعمل عكس التيار، وطوبى لمن يتمسك بالمبادىء والقيم وما زال يحمل راية الدفاع عن حقوق وكرامة وحرية الإنسان في كل مكان.
قمّ وانهض، فلربما إنسان ما، في مكان ما، بحاجة اليك الآن ... والوقت من دم.