يعيش الأصوليون بالعالم العربي، كابوسا رهيبا بعد نجاح دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهو الرعب المرتبط بهبوط أطروحة أوباما التي كانت تغازل الإخوانيين والسلفيين وتوظفهم لخدمة خريطة جيواستراتيجية جديدة.
رعب الأصوليين راجع أيضا لكونهم يحسون بأنهم أصبحوا بلا أب روحي يمولهم ويدعمهم
ستظل رئاسيات 2016 موشومة في ذاكرة الانتخابات السياسية الأمريكية، لا لأنها حملت إلى البيت الأبيض مرشحا بلا ماض سياسي، ومثيرا للجدل ينكل بالمهاجرين والأقليات بنفس القدر من الوقاحة التي ينكل بها بالنساء والسود. بل لأنه بالإضافة إلى ذلك يسجل أول انبثاق لحالة غير مسبوقة في تاريخ الترشيح والفوز في كل الأنظمة المعتبرة ديمقراطية. ذلك أن ترامب قد تقدم باسم الحزب الجمهوري لكن لا شيء قد أكد خلال حملته للانتخابية أنه يتبني بالفعل خط ذلك الحزب. بل على العكس من ذلك تماما فقد ألقى بتصريحات تتناقض مع أطروحات الجمهوريين، ومع ما يعتبر هناك قيما رسمية للولايات المتحدة الأمريكية. وبالنسبة للذين يقللون من تداعيات وآثار وصول ترامب إلى سدة الحكم فهم يرون أن كل الأفكار المعلنة خلال الحملة الماضية لا يمكن أن تجد سبيلها للتحقيق على اعتبار أن المشرعين الجمهوريين الذين يتحكمون في مجلسي الشيوخ والنواب لا يمكن أن يصادقوا على ما يرونه ضربا للثوابت المشتركة لأمريكا. بل إنهم يملكون حق إقالة الرئيس نفسه إذا ما رأوا أن استمراره في موقع الرئاسة قد يهدد تلك الثوابت. ولمزيد من الطمأنة يؤكدون أن ترامب قد عدل الكثير من تصريحاته بمجرد ما تم انتخابه رسميا، وبالتالي فالتتويج الرئاسي قد ينتج عنه ترامب جديد.
الميزة الثنائية لصعود الرئيس الجديد (الخامس والأربعين في تاريخ رؤساء بلاد العم سام) ترتبط بما يعتبر تناقضات سلوك وخطاب ترامب. ذلك أن الرجل واضح في إعلانه الحرب على تنظيم «داعش»، مثلما هو واضح في دعم إسرائيل التي وعدها بنقل عاصمتها إلى القدس. هو مع الحرب ضد الإرهاب في الشرق الأوسط دون أن يمنعه ذلك من إعلان حرب إرهابية مكشوفة ضد المسلمين والسود والمهاجرين والأقليات الإثنية، وهو مناهض لقضايا النساء، ومتورط في نفس الوقت في الشغف بمبدإ الإدمان عليهن بالزواج وبدونه، وهو مدعم لصفحة جديدة مع زعيم الكرملين ومناهض في ذات الوقت لإيران وللاتفاق النووي الموقع معها كما لو كان يجهل استراتيجية التحالف بين موسكو وطهران (انظر المؤطر)...
لكن مثل هذه الميزات لا تغيب مع ذلك فكرة أن أمريكا توجد في المنعطف اليوم، إذ رغم ما يمكن أن يعتبر عائقا تشريعيا داخل المجلسين، ورغم كل التعديلات الشفوية التي بدأ يطلقها ترامب بعد نجاحه فالمؤكد أن الرجل قد أزعج العالم، ويكفي أن نستعيد ردود فعل القوتين العظميين في الاتحاد الأروبي (ألمانيا وفرنسا) إزاء صعوده وهما تستعيدان تهديداته المرتبطة بمآل اتفاقية التجارة الدولية مع الاتحاد الأوربي نفسه، ومآل العلاقة مع الحلف الأطلسي. وكان آخرها القلق الذي زرعه في صفوف المتناظرين في قمة التغيرات المناجية المنعقدة مؤخرا في مراكش إضافة إلى التفاعلات الأخرى مثل مناداته ببناء جدار حدودي مع المكسيك بتمويل مكسيكي ومطالبته بالتعويض عن حماية اليابان وكوريا الجنوبية والمملكة العربية السعودية من الأخطار التي تحددها من داخل المحيطين الإقليمي والدولي، وكذلك التداعيات المرتبطة بخرائط جديدة يهيؤها للمناطق الملتهبة، وضمنها الشرق الأوسط وغيرها من مناطق التوتر في العالم.
في مقدمة هذه التداعيات التي تشكل محور غلاف هذا العدد ما نتصوره من كابوس رهيب يعيشه الأصوليون بمختلف تشكلاتهم في العالم العربي ـ الإسلامي بعد تصريحات دونالد ترامب حول الإرهاب من جهة، وحول مشروع التحالف الجديد مع بوتين وبشار الأسد ضدا على التنظيمين الإرهابيين: «داعش» وفتح الشام (النصرة سابقا) وما يسمى المعارضة المعتدلة، أبطال المشهد الاقتتالي في سوريا اليوم. ومن هنا مصدر رعب الأصوليين (بشقيهم السلفي والإخواني) الذين رأوا في صعود ترامب هبوط أطروحة باراك أوباما والإدارة الأمريكية بخصوص واقع الصراع الجاري اليوم على امتداد الخريطة العربية- الإسلامية.
جدل الصعود والهبوط هو ما يدمر المقاربة الأمريكية التي هيمنت على المنطقة منذ انتخاب أوباما في الولاية الأولى (2008)، والتي استندت على إدماج فكرة الشرق الأوسط الكبير والجديد مع أطروحة الفوضى الخلافة التي آمن بها المحافظون الجدد بقيادة الثنائي بوش الأب والابن (انظر المؤطر)، وجسدتها كونداليزا رايس في أفق إقرار واقع عربي جديد منذ غزو العراق تحديدا. وتجسيدا لذلك الأفق كانت إدارة أوباما قد نعت القيادات العربية مبشرة بإمكانية الرهان على ما يعتبرونه الإسلام السياسي المعتدل لتسلم الحكم، وإخضاع تمدد الإرهاب القاعدي والداعشي تحت المراقبة لتمزيق البنى القائمة باتجاه خرائط جديدة.
من هنا كان دعم أوباما الواضح لما سمي بـ«الربيع العربي»، بل الاصطفاف المباشر للسفارات الأمريكية من أجل رعاية الإخوان المسلمين، ومساعدتهم على تذليل كل الصعاب من أجل استلام الحكم. ولا يحتاج الأمر إلى كثير من التدليل بعدما ثبت أن السفارة الأمريكية في القاهرة مثلا كانت قد تحولت إلى مكتب انتداب يتتبع بالتفصيل انتفاضات ميدان التحرير في العاصمة المصرية، وفي غيرها من ميادين دار الكنانة، وتحاور كل الأطراف بما فيها المجلس العسكري واليساريين والإخوان المسلمين لترتيب مرحلة ما بعد مبارك إلى غير ذلك من عناصر السيناريو الذي سقط بعد عزل مرسي، وبعد التراجع التكتيكي للإخوان المسلمين بتونس، وبعد انحلال الدولة والمجتمع في كل من اليمن وليبيا، إضافة إلى مشاهد التدمير الذاتي في العراق وسوريا، فضلا عن الغزل الذي كانت تبادله هيلاري كلينتون مع الإخوان المسلمين بالمغرب في شخص حزب العدالة والتنمية، في هذا السياق تأتي تصريحات دونالد ترامب لتخلق واقعا جديدا عبر مفردات التحليل التالية:
إن حديث ترامب عن محاربة الإرهاب في سوريا يعني محاربة «داعش» بالصفة والاسم، ويعني في الوقت نفسه تحييد الموقف من نظام الأسد، على خلاف الإدارة الأمريكية السابقة التي كانت ترى إسقاط الأسد في صدارة الأولويات. وكان بالإمكان أن تحقق ذلك بالقوة لولا بوتين. في نفس السياق فإن حديث ترامب عن التحالف مع هذا الأخير يعني الانتصار لطروحة الكرملين التي تضع المسلحين )داعش وفتح الشام( في بلاد الشام في خانة الإرهاب، في حين كانت الإدارة الأمريكية تخرج فتح الشام (الاسم الجديد لجبهة النصرة) من دائرة الإرهاب. بل إنها تقر بمشروعية وجودها استنادا إلى الدعم غير المباشر التي تتلقاها تلك الجبهة من طرف بعض دول الخليج وغيرها.
لهذه المعطيات اعتبرنا أن الأصوليين بالعالم العربي اليوم إزاء كابوس رهيب. أولا: لأن السيناريو الذي يبشر به ترامب يعني أيضا علاقة جديدة مع روسيا الفدارلية وبموازاتها إمكانية حصر أردوغان في الزاوية بعد أن رواده حلم استعادة الخلافة الإسلامية إثر تولي محمد مرسي سدة الحكم في مصر. كما يعني كذلك، وإن كان بشكل غير مصرح به لحد الآن، إطلاق يد الدول الأخرى المواجهة تقليديا لـ«داعش» وفي مقدمتها مصر التي لا يزال الإرهابيون يستوطنون جزءا كبيرا من صحراء سيناء، ونفس الشيء في ليبيا والعراق...
ولكل ذلك معنى واحدا كبير متجسد في إمكانية إسقاط سيناريو الفوضى الخلافة، ومعه إسقاط الرهان على الأصوليين ليحلوا محل القيادات التقليدية الحاكمة، وإبطال سلسلات الحوار الذي تفتحه السفارات الأمريكية مع الأصوليين كقوة سياسية كان يراها الأكثر تأهيلا، الحوار الذي كان لا يعني فقط تبادل وجهات النظر بين أطراف سياسية محتملة، لكن توجيه الأصوليين استراتيجيا، ودعمهم لوجيستيكيا وماديا ومعنويا وإعلاميا، ومدهم بالخبرات واستقبالهم للاستفادة من التداريب الموجهة لخدمة أهداف الإدارة الأمريكية...
الأصوليون سيصبحون وفق هذا السيناريو بلا أب روحي، أي بلا شرعية تمنحها إياهم التنبئوات الأمريكية. وهذا وحده كاف لتأجيج قلقهم وإدخالهم زمن الكوابيس الثقيلة.
أما ما ستسفر عنه مقاربة ترامب الجديدة بخصوص مستقبل المنطقة فهو السؤال الذي ستجيب عنه التحولات والمنعطفات القادمة.
واشنطن: محمد العلمي
دونالد ترامب والإسلاميون: مواجهة مفتوحة؟
من الصعب التكهن بطبيعة الشخص الذي سيدخل البيت الابيض يوم العشرين من يناير 2017 كرئيس للولايات المتحدة. هل دونالد ترامب المرشح الذي لا يعير اهتماما لما يقوله أو ما يفعله أم سيكون ثقل المهمة وخطورتها قد ترسخ ولو نسبيا في ذهن الرئيس الجديد؟
صعوبة ذلك التكهن قد تطال قضايا داخلية وخارجية كثيرة من عزمه بناء الجدار مع المكسيك أو ترحيل أكثر من أحد عشر مليون مقيم غير قانوني الى الجدوى من حلف شمال الاطلسي لأن المرشح أدلى بأكثر من تصريح حول تلك القضايا وكانت تصريحات متضاربة مع بعضها.
لكن توجد بعض المؤشرات التي قد تساعد على التنبؤ بطبيعة العلاقة التي ستربط الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة والحركات الاسلامية في العالم العربي ليس عن طريق تصريحاته المثيرة للجدل فحسب، بل أيضا من خلال من اختارهم كمستشارين خلال حملته الانتخابية أو من اختارهم حتى الان لمساعدته على تطبيق تلك السياسات على الارض.
دونالد ترامب من مشاهير الأمريكيين- وقبل أن يدخل معترك السياسة بعقود- من الذين يحملون كراهية مجانية للعرب والمسلمين حتى قبل الحادي عشر من شتنبر. وأذكر هوسه بالسعودية والسعوديين في الثمانينيات من القرن الماضي حينما كان يحذر بمناسبة وبغيرها من «خطر» شراء السعوية لكل ممتلكات ومباني امريكا.
هذه النظرة الجاهلة والسطحية - من رجل يعرف عنه عدم حبه للقراءة - تعمقت مع أحداث الحادي عشر من شتنبر وازدادت حدة أثناء الانتخابات التي تزامنت مع عمليات إرهابية في أوربا وداخل الولايات المتحدة.
المرشح الجمهوري المثير للجدل استعان أيضا ببعض «المستشارين» العرب المعروفين بعدائهم إما للحركات الاسلامية أو للإسلام والمسلمين كلهم.
اختيارات الرئيس المنتخب دونالد ترامب الأولية لبعض كبار مساعديه الحكوميين تحمل على الاعتقاد بأنه يعتزم الذهاب بالمواجهة مع «الاسلاميين» إلى أقصاها أثناء حكمه بعد اختياره السناتور جيف سيشون لوزارة العدل المعروف بعدائه لاستقبال المهاجرين المسلمين، والجنرال المتقاعد مايكل فلين كمستشار للأمن القومي الذي شبه الاسلام بالسرطان، والنائب مايكل بومبيرو كمدير لوكالة الاستخبارات المركزية الذي أعرب عن الاعتقاد بأن كل مسلم لا يدين الارهاب يعد ضالعا فيه - حسب تعبيره.
يبدو أن العقلية والرجال والخطاب عناصر مهيأة لمواجهة غير مسبوقة بين أمريكا وهذا التيار، كما أن جميع أساليب المواجهة مطروحة على الطاولة من السلاح النووي الى التعذيب الى قتل اهل المشتبه فيهم، إذا صدقنا تصريحات المرشح الجمهوري خلال الانتخابات وكبار مساعديه السابقين والحاليين.
الحديث عن «حكم المؤسسات» الذي يغلب على أدبيات الصحافة العربية أثناء حديثها عن أمريكا لا ينطبق هنا، لأن الرجل يملأ البيروقراطية الضخمة بأشخاص يحملون نفس تفكيره، كما أن مؤسسة الحزب الجمهوري التقليدية قد تخلت عنه منذ الانتخابات ولن يجد أمثال جيمس بيكر وبرنت سكوكوروفت لنصحه أو كبح جماحه.
لكن الواقع على الأرض سيكون أكبر صدمة للمحاربين الجدد بسبب أميتهم بالمنطقة وبخلطهم الفظيع بين داعش والعدالة والتنمية التركي، بل عدم التفريق بين الجماعات المتطرفة وباقي المسلمين في كل أصقاع الأرض، بما في ذلك امريكا.
سيكتشف الرئيس دونالد ترامب أن مواجهته مع داعش التي ستأخذ مركز الصدارة لن تحرز تقدما إذا أصر هو ومساعدوه على الاستهجان بالمعتقد الديني لرفاق السلاح سواء في العراق أو سوريا من الجيش العراقي النظامي ونظيره التركي إلى الميلشيات السورية والكردية.
كما أن الإرهاق الذي يعاني منه الشعب الامريكي بمن فيه القواعد الانتخابية التي أوصلته الى الحكم من أي مغامرات عسكرية جديدة خاصة في الشرق الأوسط ستحد من قدرته على توسيع المعركة حتى مع داعش.
ومن المنتظر أن تجد إدارة ترامب نفسها مضطرة لتغيير خطابها أو التخفيف منه على الاقل لأسباب استراتيجية وتكتيكية إن لم تكن لأسباب أكاديمية واخلاقية لأنها لا تريد أن تغرق في رمال المنطقة مرة اخرى.
ومن غير المستبعد أن تجد حكومة دونالد ترامب نفسها تحارب داعش وأخواتها بأقل تكلفة أمريكية ممكنة والتعامل مع حركات الاسلام السياسي المعتدل ببراغماتية رجال الاعمال وتغليب منطق الربح والخسارة بعيدا عن التعصب الديني أو الانغلاق الايديولوجي.
لكن تتعين الإشارة إلى أن دونالد ترامب قلب كل القواعد رأسا على عقب وكذب كل التوقعات من تزكية الحزب إلى الفوز النهائي، مرورا بحملة انتخابية غير مسبوقة في كل شيء بما في ذلك وضاعتها وقذارتها.
وقد تستمر المفاجآت في عهد حكمه سلبا أو ايجابا بما في ذلك الحرب التي سيرثها عن سلفه باراك أوباما في منطقة الشرق الأوسط.
محمد الزهراوي، أستاذ بجامعة القاضي عياض
سياسة الرئيس ترامب تجاه الحركات الإسلامية: براديغمات الاستشراف
أثار فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بمنصب رئيس الولايات المتحدة الامريكية عدة تساؤلات ومخاوف وعلامات استفهام كبرى حول تداعيات وانعكاسات فوز هذه الشخصية الغامضة والمثيرة للجدل على القضايا والملفات الحيوية والاستراتيجية سواء على المستوى الداخلي، وبالتحديد في ما يتعلق بحقوق الاقليات والمهاجرين، أو على المستوى الخارجي وكل ما يرتبط بمرتكزات السياسات الامريكية وعلاقاتها بحلفائها ومحددات معالجتها للملفات الحساسة والساخنة في مختلف بقاع العالم، لاسيما وأن خرجات وتصريحات هذا الرجل خلال الحملة الانتخابية توحي في مجملها بوجود نزعة يمينية متطرفة تنذر بإمكانية وقوع تحولات قد تخلط الاوراق وتقلب التوازنات والمصالح، الامر الذي خلق حالة من الترقب والقلق لدى أوساطا واسعة من الامريكيين وغير الامريكيين.
ومن بين الشرائح العريضة التي تنظر بدورها بتوجس كبير لوصول ترامب إلى البيت البيض ولم تسلم كذلك من سهام نقده اللاذع، نجد «الإسلاميين» المشاركين في العملية السياسية الذين كانت تعتبرهم الادارات الامريكية المتعاقبة حلفاء وتصنفهم في خانة «الاسلاميين المعتدلين». حيث كانت هذه التيارات تستأثر سابقا باهتمام كبير من طرف المؤسسات السياسة والامنية الامريكية المؤثرة في صنع القرار. وقد ترجم هذا الاهتمام من لدن مراكز الابحاث والتفكير التابعة لتلك المؤسسات من خلال التوصيات والتصورات التي تدعم خيار ادماج الاسلاميين سواء بتشجيع أو الضغط على الحكومات العربية قصد اشراكهم في العملية السياسية.
وبالعودة إلى تصريحات ترامب يتضح جليا أنه يضع مختلف الحساسيات الاسلامية في خانة واحدة وهي خانة التطرف والارهاب، ويتعهد كذلك باستئصال ومحاصرة هذا «المد الجارف» الذي يرى أنه بات يهدد أمن وسلامة الامريكيين. من هنا يبدو أن نزعة الرئيس الجديد حيال هذا الملف تتعارض كليا مع التوجهات والاستراتيجيات الامريكية المعتمدة في تدبير ملف الاسلاميين بمختلف خلفياتهم الفكرية والايديولوجية، بحيث أن من مرتكزات هذه الاستراتيجية أنها تتسم بالالتباس والتناقض لأنها توظف تارة وبشكل خفي ورقة الاسلام الراديكالي وتارة أخرى تلوح علنا بالإسلام الحركي المعتدل، فأمريكا تدعي محاربة الصنف الاول المتطرف رغم أنه يخدم مصالحها التوسعية المتعلقة بالتجزئة والتقسيم وإعادة رسم الخرائط الجديدة، وتشجع الصنف الثاني رغم أن التجربة أثبتت أنه معادي لمصالحها في مختلف مناطق العالم.
وتجدر الاشارة في هذا الصدد إلى أنه قبل فوز ترامب سجل في عهد الرئيس أوباما أن هناك تحول تكتيكي أو تصور جديد في إطار التبلور على مستوى الاستراتيجية الامريكية الخاصة بملف الاسلاميين المشاركين في العملية السياسية، من خلال مؤشرين اثنين : دعم الانقلاب في مصر والتواطؤ مع المحاولة الانقلابية التي شهدتها تركيا في شهر يونيو 2016. هذا التحول من المؤكد أن الغاية منه ليس غلق قوس دعم تجربة الاسلاميين بقدر ما أن هناك مراجعة لهذا التصور القديم بعدما اتضح جليا أن حركات الاسلام السياسي يصعب ترويضها وضبطها وفق الميكانيزمات والضوابط السابقة.
هذا التصور أو الاستراتيجية الجديدة بدأت معالمها تظهر عند استحضار التجربة المصرية من خلال الضغط على السيسي للتفاوض مع الاخوان المسلمين وعقد صفقات وتسويات مع المعتقلين الاسلاميين بغية ارجاع عقارب الساعة إلى الوراء والعودة إلى المراحل الأولى، حيث كان الاسلاميين ممثلين بالبرلمان ويتحركون في الساحة السياسية بشكل مضبوط ومؤطر ومسيج بقوانين واليات متعددة. أي أن أمريكا من خلال مراجعة السياسات السابقة تسعى إلى دعم اشراك الاسلاميين بشكل محدود ومتحكم فيه دون المخاطرة بالسماح لهم بالتربع على السلطة أو ممارسة الحكم على الاقل في المرحلة الراهنة.
وفي سياق قراءة واستشراف سياسة الرئيس الجديد تجاه حركات الاسلامي السياسي بالعالم العربي عامة والمغرب على وجه التحديد، لابد من استحضار بعض المحددات التي تؤطر وتتحكم في عملية اتخاذ القرار بالولايات المتحدة الامريكية، بحيث توجد مؤسسات قوية لا يمكن تجاوزها في بلورة السياسات خاصة تجاه الملفات الحيوية والاستراتيجية مثل ملف الاسلاميين، كالكونغرس ووزارة الخارجية والدفاع واستشارية الامن القومي والاستخبارات ومراكز التفكير بالإضافة لتأثير اللوبيات.
الملفات التي من بينها ملف الاسلاميين، الاول، براديكم المصالح، بحيث من المستبعد أن يعادي ترامب هذه التيارات التي تتوفر على شرائح واسعة في الوطن العربي، وبفعل ثقل المصالح الامريكية بالمنطقة العربية.
أما الثاني، البراديكم السلوكي، فتبعا للمنهجية التجريبية في دراسة السلوك، فإن تأثير المحيط يلعب دورا أساسيا في تطوير وتغيير شخصية الفرد بصفة عامة، لذلك فشخصية «ترامب المرشح» تختلف عن شخصية «ترامب الرئيس»، لان الرئيس الجديد سيكون محاطا بطاقم من الخبراء والمستشارين المتخصصين في جميع المجالات، مما سيؤدي مع مرور الوقت إلى إحداث تغيرات جوهرية في شخصيته وتصرفاته بما يتناسب مع موقعه الجديد، وهذا الامر تكرر مع عدة رؤساء سابقين لأمريكا.
وبالتالي، فتعامل ترامب مع حركات الاسلامي السياسي سيكون وفق التصور الجديد الذي تعكف مراكز التفكير الامريكية على بلورته انطلاقا من التحولات الاقليمية والدولية التي يعرفها العالم، خدمة للمصالح والسياسات الامريكية في المنطقة العربية.
كيف ربط مرشح ترامب «الأمن القومي» بالعقيدة الإسلامية؟
نشر الجنيرال المتقاعد مايكل فلين (الصورة)، الذي رشحه الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، لتولي منصب مستشار الأمن القومي، مجموعة من التغريدات المثيرة للجدل حول العقيدة الإسلامية. وتفاعل فلين مع شخصيات يمينية متشددة، وشخصيات معادية للسامية، وأعاد نشر أخبار غير موثوقة، بحسب رصد أجرته «سي إن إن» لحسابه الرسمي على موقع «تويتر». ونشر الجنيرال المتقاعد، عبر حسابه على «تويتر»، بشكل دوري تغريدات لأشخاص من حركة متشددة تسمى «اليمين البديل»، كما أنه واجه انتقادات حادة في يوليوز الماضي، عندما أعاد نشر تغريدة معادية للسامية، قبل أن يحذفها ويرد بأنه فعل ذلك بـ«الخطأ». وأظهرت تغريدات لمايكل فلين، الذي سبق أن ترأس وكالة الاستخبارات العسكرية، نوعا من «الإسلاموفوبيا»، إذ إنه كتب في يوليوز الماضي بعد الهجوم الإرهابي في مدينة نيس الفرنسية، أنه يتحدى «قادة العالم العربي والفارسي أن يعلنوا أن أيديولوجيتهم الإسلامية مريضة ويجب علاجها». وكتب فلين في فبراير الماضي في حسابه على موقع «تويتر»: «الخوف من المسلمين منطقي، أرجوكم شاركوا هذا مع الآخرين، الحقيقة لا تخشى التشكيك»، مع نشر رابط لفيديو يزعم أن «الإسلاموفوبيا منطقية وأن الإسلام أراد استعباد أو إبادة 80 % من البشرية»، وهي التغريدة التي أثارت الكثير من الجدل
ترامب والبوليساريو
يبدو دونالد ترامب كما لو خرج من مكان مجهول في السياسة الأمريكية، إذ شهدت حملته الانتخابية مناصرات لدول وتهجمات قوية على دول وتنظيمات بدون مراعاة واجب التحفظ، أو اعتبارات البروتوكول التي قد تسيج تصريحات وتحركات مسؤولي أكبر دول العالم.
بعد اليابان وكوريا الجنوبية والسعودية والمكسيك، وبعد المسلمين والسود والمهاجرين والأقليات، أعلن ترامب عبر مريام ويتشر (المسؤولة الإعلامية لحملته الانتخابية) عن موقف غير مسبوق تجاه البوليساريو عبر التساؤل التالي: «ما الفرق بين داعش والبوليساريو؟ بالنسبة لنا لا فرق بينهما، فنحن هنا لمحاربة الإرهابيين، ونحن هنا لضمان السلام والحب والعيش الكريم»، موضحة أن «دونالد ترامب» يعرف جيدا أن «داعش» و«البوليساريو» يحملان تسميات مختلفة، إلا أنهما ينتميان لخانة الإرهاب طبعا ويمثلان الشئ نفسه». وأضافت مريام ويتشر أن «المرشح الرئاسي ترامب لم يهاجم يوما المغرب المعروف بأنه بلد سياحي جميل وأناسه طيبون، لكن وسائل الإعلام هي التي حورت كل ما قاله فهو هاجم الإرهاب ولم يهاجم المغرب»،
أهمية هذا الموقف تتمثل في اعتباره أخطر صفعة توجه لتنظيم البوليساريو ولزعيمه إبراهيم غالي (الصورة)، ولحاضنته الجزائر. كما أنه يمثل انقلابا إزاء الإدارة الأمريكية ايام أوباما التي كانت قد تبنت مقاربة شرسة إزاء قضيتنا الوطنية عبر التلويح مرات بإدراج ملف حقوق الإنسان ضمن مهام المينورسو..
فهل تعرف قضيتنا الوطنية منعطفا إيجابيا في عهد ترامب؟ يصعب الجواب عن هذا السؤال الآن، لكن المؤكد كما يسجل ذلك المراقبون أن الجمهوريين كانوا دائما على خط الاعتدال في هذا الملف بخلاف الديمقراطيين.
سفارات أمريكية أم مكاتب انتداب لتسمين الأصوليين؟
ثلاث نظريات حول الشرق الأوسط وعموم المنطقة العربية الإسلامية عرفها العالم بعد الحرب العالمة الثانية: الشرق الأوسط الكبير، والشرق الأوسط الجديد ثم الفوضى الخلاقة. ذلك ما أكده الباحث والإعلامي أحمد المسلماني (مؤلف «الحداثة والسياسة» و«ما بعد إسرائيل») عشية فوز دونالد ترامب. في هذا الإطار يوضح مسلماني بأن أطروحة الشرق الأوسط الكبير كان قد تبناها جورج بوش الأب، وتقوم على إعادة بناء المنطقة لتشمل بالإضافة إلى الشرق الأوسط التقليدي (الدول العربية) دول إسرائيل وتركيا وإيران وباكستان وأفغانستان. أما نظرية الشرق الجديد التي تبناها بوش الابن فتعني انتهاء الشرق الأوسط القديم لفائدة شرق جديدة يخضع المنطقة لقيادة إسرائيل. وواضح في رأينا أن خلفيات شرق الأب وشرق الابن تستهدف:
1ـ إذابة الهوية العربية الإسلامية للمنطقة عبر إنهاء فكرة الصراع العربي الإسلامي، وإطفاء جذوة شعار الوحدة العربية من جهة، وربط المنطقة بامتداد جغرافي أوسع متعدد الهويات.
2ـ تسليم القيادة الاستراتيجية إلى إسرائيل تحديدا.
أما النظرية الثالثة (الفوضى الخلاقة) فيشير المسلماني إلى أنها استخدمت لأول مرة سنة 1902 على يد أحد المؤرخين الأمريكيين. لكن مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس أعادت إحياءها بما يخدم استراتيجية التفتيت وإخضاع المنطقة المعنية إلى الهدم ثم البناء رغبة في واقع جديد.
وحين جاءت إدارة أوباما صهرت النظريات الثلاث في وصفة المراهنة على تسلم الأصوليين المندرجين تحت اسم «الإسلام السياسي» بدعوى نهاية المشاريع القديمة (القومية والاشتراكية مثلا)، وترهل القيادات الحالية. على ضوء ذلك دعمت اندلاع «الربيع العربي» ومهدت ثم ابتهجت لصعود الإخوان المسلمين في مصر وتونس والمغرب. كما رأت في المخاضات العنيفة وأحيانا الدموية باليمن وليبيا وسوريا والعراق سبلا لاعتلاء الأصوليين صدارة الحكم. لكن الآن وبعد تصريحات ترامب وإعلانه التحالف مع بوتين للقضاء على الإرهاب، وتأكيده أن عدو أمريكا ليس القيصر الروسي أو بشار السد ولكنه «داعش»، تسقط الوصفات القديمة خاصة نظرية الفوضى الخلاقة، مثلما يسقط الرهان على الأصوليين، وعلى الإخوان تحديدا.
هؤلاء سيجدون أنفسهم إذا تحققت تصريحات ترامب في الممارسة يتامى، إذ ستغلق أمامهم أبواب السفارات الأمريكية (مكاتب الانتداب)، ويحجب عنهم الدعم المالي والمعنوي لتنتهي مرحلة الاستقواء بالأجنبي وبأمريكا تحديدا، ولتبدأ أخرى لا أحد يعلم بتضاريسها الخاصة سوى أنها منعطف جديد في خرائط العالم.