بنسبة مشاركة في التصويت بلغت بالكاد 43% حسب الإحصائيات الرسمية، تكون كافة الأحزاب السياسية المغربية المشاركة في العملية الانتخابية، وعددها يزيد عن الثلاثين، قد فشلت في إثناء المواطنين المغاربة عن العزوف عن المشاركة في الاقتراع. وبالتالي تكون قد أخلت بواجبها القانوني الذي يتلخص حسب الفصل السابع من الدستور في تأطير المواطنات والمواطنين، وتكوينهم السياسي وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية.
وبهذا، فإن الفائز الأول في العملية الانتخابية بكل مراحلها هو تكتل المقاطعة المكون في مجمله من أغلبية المواطنين بصفتهم الفردية؛ لأن القوى السياسية المنظمة التي دعت للمقاطعة سواء الشرعية منها وغير الشرعية كان تأثيرها محدودا ومحصورا في دائرة نفوذها ومجال مريديها، وبعضها لم يكن صوته مسموعا على الإطلاق.
ويعود العزوف في معظم الحالات إلى ما تكون لدى المواطن من نظرة سلبية عن الأحزاب السياسية، وقياداتها الغارقة في البحث عن المصالح الذاتية والمنفعة الشخصية، وعن المؤسسة البرلمانية الفارغة معظم الوقت مع أنها مكونة بغرفتيها من 515 نائبا ومستشارا لا يحضر إلا القلة منهم ساعة اتخاذ القرارات، بما في ذلك الحاسمة والمصيرية منها.
وقد فاز تكتل المقاطعة أيضا ليس فقط على الأحزاب السياسية، وإنما على الآلة البيروقراطية أيضا، التي سخرت كافة الإمكانيات وخاضت حملة تحسيسية إعلامية وشعبية واسعة جندت لها العديد من الطاقات الإدارية لعلها تستطيع أن تزرع قليلا من الأمل والقناعة لدى المواطن بإمكانية حدوث التغيير والتطوير المنشودين من خلال العمل السياسي وفق المسار المرسوم له، وضمن القواعد الناظمة لحركته.
أكثر من ذلك، فإن تكتل المقاطعة تزايدت أعداده وفق الإحصائيات الرسمية، إذ انتقل من حوالي 6 مليون نسمة في انتخابات 2011 إلى ما يربو على 9 مليون في انتخابات 2016 على أساس عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن عدد المواطنين فوق السن القانونية للانتخاب (18 سنة) فسنكون أمام حوالي 28 مليون نسمة شارك في الانتخابات منها أزيد من 6 مليون نسمة فقط أي ما يربو على 24 في المائة.
رقم مخيف استدعى الكثير من القراءات والتعليقات على الدلالات الكامنة فيه، وصل بعضها إلى حد نزع أي مصداقية عن عملية التصويت التي تمت، وعن النتائج التي تمخضت عنها. وبالفعل يمكن تجريد العملية من جزء كبير من مصداقيتها استنادا على أن عددا من فقهاء القانون الدستوري يرون أن أي عملية انتخابية يصنفها المشرفون عليها في خانة خطوات الانتقال الديمقراطي (كما نفعل نحن في المغرب) لا بد وأن يتجاوز المنخرطون فيها نسبة أزيد من 50% حتى تكتسب شرعيتها الشعبية.
وغير خاف أن نسبة 50% من المشاركة لم تصلها التجربة الأولى لهذا الدستور وهو في قمة عنفوانه سنة 2011. وها هي تتقهقر أكثر في التجربة الثانية بشكل يطرح العديد من الأسئلة والتساؤلات عن الأسباب والمسببات، التي يأتي على رأسها في تقديري سوء تنزيل المقتضيات الدستورية رغم الحمولة الدينية والإيمانية التي يتضمنها مصطلح "التنزيل" الذي تم الاعتداء عليه بطريقة فجة.
ولذلك، فإن الأجدر بتولي السلطة الحكومية الجديدة هو تكتل المقاطعة، الذي لم يعد خارجا عن الجماعة الوطنية أو إجماع الأمة برأي فقهاء الشريعة. فقد أعلن جلالة الملك حفظه الله صراحة ".. فأنا ملك لجميع المغاربة، مرشحين وناخبين، وكذلك الذين لا يصوتون..".
ومن المؤكد أن هذا التكتل سيكون أكثر حرصا من كافة الأحزاب السياسية على التقيد بالمبادئ العليا للدستور، وأكثرها أهمية للمواطنين لما لها من أثر مباشر على حياتهم اليومية مقتضيات الباب الثاني عشر حول الحكامة الجيدة. فهذا التكتل في زمن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية سيكون حريصا على إرسال إشارات إيجابية حول الجدية والمصداقية والنجاعة في تدبير المرافق العمومية، بما يطمئن الأجيال الصاعدة ويبث جزءا من الطمأنينة في نفوسها.
فلا يعقل أن هذا التكتل بأغلبيته المطلقة (57% من الهيئة الناخبة) سيلجأ إلى أسلوب المساومة الرخيصة، والترضيات الشخصية ليأتي بحكومة "علي بابا والأربعون وزيرا". ولا يعقل ألا يرشد أيضا فيما يصرف على المؤسسة التشريعية، وأن يسمح ببقاء 395 نائبا عن 35 مليون نسمة، و120 مستشارا عن 12 جهة ؛ فيما أقوى دول العالم وأكثرها تقدما ورسوخا في الممارسة الديمقراطية لديها 435 نائبا لأزيد من 300 مليون نسمة، و100 سيناتور (شيخ) عن 50 ولاية.
أليست هذه الفرضية أكثر إثارة، مما سنراه وسنسمعه عن التحالفات القادمة، التي ستنتهي بخلوطة جديدة، (سمك لبن تمر هندي كما يقول المصريون)، حيث يجري ترفيع أقسام ومديريات إلى رتبة وزارات كي يرضى بعض من أبناء وأصهار الذوات.