الجمعة 19 إبريل 2024
منبر أنفاس

عبد الغني السلماني: "صحيح البوخاري" ومحنة حرية الفكر  

عبد الغني السلماني: "صحيح البوخاري" ومحنة حرية الفكر   عبد الغني السلماني

عاد كتاب "صحيح البخاري.. نهاية أسطورة"، لمؤلفه رشيد أيلال، ليثير الجدل مرة أخرى، ويأتي هذا القرار بناء على  طلب تقدم به والي جهة مراكش-آسفي بتاريخ 7-11-2017. وكشف قاضي الأمور المستعجلة أن طلب الوالي جاء بناء على اجتماع بمجلس الجهة يوم 30 أكتوبر 2017، والذي عرضت فيه لجنة إقليمية مختصة بمراقبة نقط بيع كتاب "صحيح البخاري.. نهاية اسطورة"، أن الأخير تتضمن صفحاته "مسا بالأمن الروحي للمواطنين ومخالف للثوابت الدينية المتفق عليها". وتبعا لذلك، أصدر القاضي أمراً بحجز الكتاب من العديد من المكتبات بمراكش، مبرزا أن هذا الأمر مشمول بالتنفيذ المعجل بقوة القانون.

الغريب في الأمر، أن هذا القرار يأتي في وقت نسي فيه الرأي العام هذا المُؤلَف، حيث تم ترويجه بشكل بكبير في وسائل التواصل الاجتماعي عبر صيغة PDF. القضية لم تكن سوى إعلامية بالأساس، حيث ناقش الكِتاب العديد من الباحثين كما وقفوا على بعض نقائصه، ولم يكن فتحا حتى يزعزع قناعات المسلمين المتعطشين للفكر العقلاني .

وما دامت القضية بيد القضاء، الذي نحترمه، فإن هذا الحكم يخدم المتشددين والمنغلقين الذين كانت لهم ردود فعل اتسمت بالتشنج والارتعاش والارتباك مع استعمال في الكثير من الحالات مفردات تحمل في طياتها عنفا معنويا غير مبرر اتجاه الكَاتِب، لذلك لابد أن نشير أن جرأة الكاتب على مجهود (صحيح البخاري) ظل في نظر العديد من المدافعين عن شكلانية العقيدة من "أدق الناس وأحصرهم على تنقية السنة النبوية الشريفة بالشروط المعروفة لقبول الحديث النبوي والتأكد من صحته". كما أن هناك من ربط هذا المجهود باقتفاء أثر المستشرقين ومن  سار على نهجهم في التشكيك ونقد المقدس، لكن حسب اعتقادهم "لم ينجحوا وبقي في نظرهم صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى"، وعليه فإن عملية التقييم ونقد الكتاب في الأعراف العلمية يجب أن تكون من قبل العلماء والباحثين المتشبعين بالدراسات الموضوعية الملتزمة بالمنهج العلمي والنزاهة الفكرية. لذا أعتقد أن الحملة ضد كتاب "صحيح البخاري نهاية أسطورة " التي سبقت قراءة الكتاب كانت سببا لاستصدار هذا الحكم المتسرع !

- الانغلاق يصنع الاستبداد والإرهاب:

من غير الحكمة أن نحاول تشجيع الناس على النمط، دون الرغبة في معرفة معتقداتهم والتشكيك فيها حتى يكون الإيمان مؤسسا نافعا للناس رغم التحول والتغيير الذي يصيب المجتمعات، لذلك من التعسّف أن تفكّر جماعة في تغيير المجتمعات الأخرى، واستبدالها بمجتمعات مغلقة تخاف من نسيم الحرية والجرأة، فترسم معالمها الإيديولوجيات الضيّقة وتحصنها قدر المستطاع من أجل الحفاظ على رتابة الوضع، وهذا ما نلحظه بجلاء في عدّة دول بعد اندلاع ما عرف بثورات الربيع العربيّ، حيث كلما تعطش الناس إلى الحرية، انتهز المتشدّدون الدينيون الفرصة في إقامة الحدود وتطبيق الشريعة بشكل فج، مما يسبب في اضطراب وضعف العديد من الدول التي تعيش نتائج الربيع العربي (ليبيا، تونس، اليمن، العراق، سوريا...) بظهور جماعات متطرفة تقيم الحد تحت تسميات مستفزة "جند الله، داعش، النصرة..". مستغلين كل الشروط بما فيها القضاء من أجل القضاء على ثقافة التسامح المتجذرة في أعماق الحضارة والتاريخ، فاستعملوا من أجل ذلك كلّ أنواع العنف المعنوي والرمزي والماديّ، فاستولوا على المساجد ونصّبوا الأئمّة وانتصبوا قضاةً ورجال أمن ينظرون في مشاكل الناس ويعاقبون من يستحقّ العقاب، ثمّ أعلنوا تلك البلدان (ليبيا، تونس، سوريا...) أرض جهاد يجوز فيها قتل من خالفهم من ساسة ورجال أمن وجيش ومواطنين، وارتكبوا عدّة جرائم بشعة، راح ضحيتها عشرات من الشهداء الأمنيين والعسكريين والمدنيين، ندرك من خلال هذا أنّ العنف يخالف طبيعة الشيء أو لنقل طبيعة المجتمع ذاته، ولذلك رفضت المجتمعات المنادية بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية هذا الفكر العنيف، وصنّفوه بكلّ أطيافهم فكرًا إرهابيًّا لأنّه أرهب النّاس وروّعهم.

ولا غرابة أن نجد الحشد الشعبي في الكثير من البلدان متعاون مع الأمن والجيش للقضاء على هذا الورم العضال إيمانًا منهم بأنّ الشدّة والقسوة والغلوّ والتطرّف ليس من طبيعة مجتمعاتهم، فثقافة المجتمع أميل إلى الاعتدال والانفتاح والتسامح والتعايش السلمي، ولذلك فشلت كلّ الحركات الدينية المتشدّدة التي استعملت العنف من أجل تغيير المجتمع.

- الحرية خط أحمر :

 قضية الصراع من أجل التموقع والمواقع والتأثير على المجتمع هي عنصر التقاطب بين الاتجاه المحافظ والاتجاه العقلاني الحداثي، وهذا ظهر بشكل جلي في قضية ما يعرف بـ "صحيح البخاري نهاية أسطورة" في المغرب.. وهذا ليس وليد واقعنا فحسب، بل إنها قضية ماثلة ومتكررة دوماً في فكر الفلاسفة والمفكرين وأهل الصلاح. وهنا أستحضر كتاب الراحل الدكتور صادق جلال العظم، «نقد الفكر الديني»، حيث أكد في هذا المنجز المعرفي المٌشوِق بمواجهه نقدية جذرية، وبصورة رئيسية: المعتقدات والمؤسسات الإسلامية! فهو يقصد بالدين (مجموعة المعتقدات والتشريعات والشعائر والطقوس والمؤسسات التي تحيط بالإنسان لا باعتباره ظاهرة روحية نقية وخالصة)، كما أن الكتاب كان في عصره يتصل بالجدال العقائدي والمعترك الفكري الذي يدور في المنطقة العربية -وفي مناطق عديدة من العالم العربي-، حول علاقة الإسلام بالهزيمة والتخلف، والنزاع بين العلم والدين، والتوفيق بين الإسلام والحياة المعاصرة. هذا الكتاب ومحاكمته وإصدار أحكام بمنعه من القراءة والتداول بين الناس شبيه بمحنة صاحب نقد الفكر الديني رغم الفارق والمسافة بين جلال العظم ورشيد أيلال. لكن الحكم في آخر مطاف يخدم المقاربات الضيقة التي تخاف على التراث بطريقة مرضية لقطع عن المواطن كل اتصال ثقافي أو علمي أو فني أو إعلامي بالعالم الخارجي بحجة محاربة الغزو الثقافي وأخطاره كما تشكك في الطروحات النقدية العلمية، تصل إلى إدانة الحداثة في حياتنا المعاصرة. لذلك يبدو لي أن مبالغة  القضاء في التهويل وسرد مخاطر زعزعة العقيدة، كما يفهمونه أو لا يفهمونه، وحماستهم الملتهبة لحمايتنا من تأثيراته الضارة، تنطوي ضمناً على نظرة تحقيرية حقيقية للمواطن الذي يريدون حمايته. إذ يظهر هذا الإنسان بمظهر المنفعل الذي تؤثر في أعماقه كل شاردة وواردة إعلامية أو ثقافية أو سياسية معادية، وهذا يفسر لنا نظرة  المنع التي ترتكز على مبررات واهمة في صيانة المقدس والروحي عند المغاربة المتواجدين في كل البقاع وليس في مدينة أو منطقة بعينها.. لعل في هذا الطرح بعض الإجابات التي يقدمها فكر الوصاية على الناس، فنحن أمام معضلة حقيقية، ثلة تتحكم بالخطاب وتوجهه قدر المستطاع وتقنع مؤسسات القضاء وتٌؤثر فيه، وتضع سياسات التحريم والمنع بحجة حماية المجتمع، ولا تسعفهم معارفهم إلا بالعمل على الإقصاء والتكميم وإلغاء أي صوت تنويري وحداثي جديد، وهم يعلمون جاهدين على  أضعاف  المجتمع وتسطيح معارفه وسَحْب ما يغديه من قوة النقد وتفكيك  الجاهز.

فالحرية هي الغاية التي يعيش من أجلها الأحرار، ولذلك يعتبرونها دوما وأبدا خطا أحمرا.