حين نضجت الفكرة الحقوقية داخل المنتظم الدولي انعقدت عليها الكثير من آمال الشعوب، خاصة بعد أن اتخذت هذه الفكرة طابعا مؤسسيا من خلال إنشاء آليات وهيئات دولية لحماية الحقوق والحريات في العالم، سواء في مستويات العلاقة بين السلط والمجتمعات، أو ما يهم حقوق اللاجئين والأطفال والنساء وغيرها.
كان العالم يومها خارج من الآثار المدمرة للحرب العالمية الثانية، والتي تعمقت أكثر بعد حرب الفيتنام، تفاعلا مع تجاذبات معارك استقلال الدول على خلفية الحرب الباردة. ومن ثم قرئت تلك الآليات والهيئات كتمثل للضمير العالمي اليقظ والمستقل. لكن مع توالي الأيام، وبعد أن انهار المعسكر الشرقي واستفرد الأمريكيون بالعالم، وبعد أن فقدت الفكرة الحقوقية بريقها أمام تضخم الصراعات بين الدول، تبدلت أدوار العمل الحقوقي، حيث استبدل مبدأ النضال التطوعي في هذا المجال بأقنعة جديدة للعمل الحقوقي، مستفيدة من سقوط الأفكار والمثل الكبرى لفائدة قيم السوق وقيم الابتزاز التي عرضت العالم إلى مبدأ البيع والشراء. وفق ذلك صارت كل مناطق التوتر في العالم تخضع لمنطق المزايدة و«الشانطاج»، بدءا من قضية الصراع العربي الإسرائيلي، مرورا بحرب البوسنة والهرسك وقضية كوسوفو، وناميبيا والملفات الحارقة بالقوقاز (جورجيا وأوسيتيا خاصة، إضافة إلى ملف أبخازيا)، وصولا إلى نزاعات اليوم، وضمنها نزاع الصحراء المغربية الذي يبرز بوضوح كيف أن تعاملات المنتظم الدولي إزاءه لا تخرج عن منطق السوق بما يعنيه من عمليات البيع والشراء والمقايضة. (انظر افتتاحية هذا العدد)
40 سنة من عمر هذا النزاع المفتعل الذي من المفروض أنه يخضع للمعالجة الدولية بإشراف الأمم المتحدة، تؤكد الأدوار المسيسة للعمل الحقوقي الذي يذهب دائما باتجاه الرغبة في لي ذراع المغرب وابتزازه، رغم كل أشكال التسوية السلمية التي نادى بها منذ قبوله سنة 1981 بإجراء الاستفتاء، وبقبول هيئة المينورسو، وانتهاء بمقترح الحكم الذاتي الموسع. لكن مقابل المقترحات المغربية تحتد شراسة المنظمات الحقوقية الدولية، مرة باسم «حق تقرير المصير»، ومرة بالطعن في المنظومة القضائية المغربية، ومرة باتهام ممارسة التعذيب في حق «المعارضين».
في هذا الإطار يسعى غلاف هذا العدد إلى كشف حقيقة تلك الأدوار وأذرعها وأقنعتها الممولة من الدول الغربية العظمى (الولايات الأمريكية تحديدا)، وبإدارة أطراف في المجتمع الدولي تغذي فكرة «الفوضى الخلاقة» التي تهدف إلى إغراق الشعوب العربية في التمزقات الذاتية، وفي التجاذبات الإقليمية كوجه جديد من أوجه الاستعمار الجديد. (انظر ص: 9 و10)
لتوضيح ذلك يؤكد ملف هذا العدد أن العمل الحقوقي الدولي يتحرك عبر تشابك وتداخل ثلاثة أطراف:
1 - الإدارة الأمريكية عبر ركائزها الثلاث المتمثلة في: البيت الأبيض ووزارة الخارجية والكونغريس. فضلا عن موظفيها المبثوثين داخل المنظومة الأممية، وداخل المنظمات غير الحكومية من موقع التأثير وتقديم الاستشارة والمساهمة الفعلية في صنع القرار الدولي.
2 - المنظومة الأممية ممثلة في محيط الأمين العام الأممي وفي مجلس حقوق الإنسان والمفوضية السامية لحقوق الإنسان وأيضا في مجلس الأمن والجمعية العمومية.
3 - المنظمات غير الحكومية المهتمة بـ «حقوق الانسان»، وخاصة تلك التي تحظى بالدعم الغربي الكبير والفاضح، ونعني بها بالدرجة الأولى: «فريدم هاوس، أمنيستي أنترناسيونال، هيومن رايتش». (انظر ص:8)
التشابك بين الأطراف الثلاثة يفتح القنوات، عموديا وأفقيا، في ما بينها بدعم معنوي من مؤسسات التفكير Think-Thank التي تعبد لها الطريق بدراسات «مخدومة» تنوم الرأي العام وتوحي له بالطابع العلمي للحملات التي تستهدف هذه الدولة أو تلك. كما يتغذى هذا التشابك بانخراط «مكاتب انتداب حقوقية» مغربية في لعبة الأمم هاته مقابل تمويلات سخية، باسم «حقوق الإنسان» في تنكرللمقاربة الحقوقية، وفي انسجام كلي مع أعداء الحق المغربي. (انظر ص:7)
إزاء كل ذلك ترتسم صورة مفارقة يبدو معها المغرب كما لو كان كوريا الشمالية أو نيجيريا أو الجزائر أو بورما أو غيرها من البلدان التي لا تزال في الدرجة الصفر لحقوق الإنسان بالتوقيت العالمي. في حين يصمت العقل الحقوقي الدولي عن الجزائر الموغلة في طابعها الاستبدادي، المحجورة بإرادة العسكر، المعطوبة بانحباس حقوق الإنسان وبقمع الحريات، بما فيها حرية الرأي والتعبير سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات كما في حالة شعب القبائل والطوارق.
الصورة مفارقة إذن وقدر المغرب أن يوجد الآن في مرأى الزناد الأمريكي والجزائري (بفضل أموال النفط)، تماما لو قدر له أن يؤدي ضريبة انفتاحه السياسي المتدرج منذ قرر المصالحة مع المجتمع بتعدده وتنوعه، وضريبة سعيه المشروع إلى نموذج تنموي ذي شخصية وطنية ترفض للبلاد أن تكون «محمية لأحد». في هذا الإطار نقرأ الخطاب القوي للملك محمد السادس في القمة الخليجية ـ المغربية، وفي الإطار ذاته نقرأ سعي المغرب إلى تنويع شركائه في العالم.
بعد ستة عقود من الاستقلال يستنهض المغرب ذاته لتأكيد مواصلة الاستقلال عن اللعبة القذرة التي تقودها الإدارة الأمريكية، حيث تلتقي موضوعيا مع خصوم المغرب الإقليميين الذين لا يعادون المغرب فقط لأنه يريد استكمال تحريره الترابي، أو لأنه خرج بسلاسة من رياح الربيع العربي، ولكن لأن «المخططات العدوانية - والكلام للملك محمد السادس - التي تستهدف المس باستقرارنا، متواصلة ولن تتوقف. فبعد تمزيق وتدمير عدد من دول المشرق العربي، هاهي اليوم تستهدف غربه. وآخرها المناورات التي تحاك ضد الوحدة الترابية للمغرب».
إن استئناف المطالبة بتجديد فكرة انفصال الصحراء عن المغرب تعني كذلك استئناف بلادنا للمطالبة بصحوة العالم ليعود إلى رشده، وإلى حماية قيم الإنسان بدل قيم السوق وقيم الابتزاز وقيم استعباد الشعوب وتمزيق الأوطان.
محطات تاريخية مهمة تكشف المخطط الأمريكي لـ «تسويد» صورة المغرب حقوقيا
لنتأمل هذه التواريخ:
1 - في عام 2013 تقدمت الولايات المتحدة الأمريكية بمسودة قرار لمجلس الأمن تروم توسيع صلاحيات المينورسو لمراقبة حقوق الإنسان بالصحراء المغربية.
2 - في عام 2013 قامت منظمة العفو الدولية بإحداث «المجلس العالمي للأمين العام لـ «أمنيستي».
وكلا المحطتين غير بريئتين: فالأجندة الأمريكية عام 2013 تحكمت فيها تداعيات الموجة الأولى للربيع العربي، حيث تم الانتقال للتخطيط لإحداث موجة ثانية من «الربيع العربي» لضرب ما تبقى من دول لم تحدث فيها الفوضى وتسيل فيها الدماء، فيما منظمة العفو الدولية بدأت تفقد طهرانيتها بالنظر لتصاعد الاتهامات ضدها بالتركيز على الخروقات في دول الحوض العربي وتجاهل الفظاعات المرتكبة في حق المسلمين والمهاجرين العرب في الدول الأوروبية والأمريكية، فضلا عن تجاهل فظاعات سجن غوانتانامو. ولاستعادة «بكارتها الحقوقية» خلقت أمنيستي عام 2013 آلية جديدة سمتها «المجلس العالمي» Le Conseil mondial du Secrétaire Général، وهو «منتدى» يجمع مجموعة من الأسماء «المؤثرة» في العالم من عالم المال والأدب بهدف وضع المعالم الكبرى لتوجهات منظمة العفو الدولية، ويقوم بتقييم نتائج المكاتب الإقليمية.
وأولى خطوة للمجلس العالمي لأمنيستي الدولية هي إجراء هيكلة بأحد أهم مكاتبها، ألا وهو مكتب الولايات المتحدة، حيث تم إعفاء «سوزان نوسل» Suzanne Nossel من منصب مديرة منظمة العفو الدولية بأمريكا وتعيين صقر آخر محلها وهو فرانك جانوزي Franck Jannuzi.
الإعفاء تم بهدف تبييض صورة أمنيستي ونزع التهم التي ألصقت بها بشأن كونها في خدمة الدول الغربية، خاصة وأن «سوزان نوسل» كانت معروفة بإشهارها لنظرية «القوة الناعمة» لإسقاط الأنظمة المعايدة للمصالح الأمريكية. وكانت سوزان (للعلم هي مستشارة سابقة لهيلاري كلينتون) تعلن صراحة وفاءها لمبدأ وجوب مصاحبة «القوة الناعمة» للقوة العسكرية..
ولتعويضها عن هذا المنصب تم تنصيبها على إحدى أهم المؤسسات المعادية للإسلام والمسلمين، ألا وهي «Pen American Center»، بدليل أن هذه المؤسسة كانت وراء منح جائزة لمجلة «شارلي إيبدو» تضامنا معها في نشر الصور المسيئة للرسول الكريم بدعوى «حرية التعبير»!
الشخص الذي حل محل سوزان على رأس مكتب أمنيستي بأمريكا «فرانك جانوزي» يؤمن بالعمل الخفي بحكم أنه قادم من المخابرات الأمريكية، حيث عمل سابقا في وكالة الأمن القومي مكلف بـ «المكتب الأمريكي للاستعلامات والأبحاث السياسية لمنطقة «آسيا».
وفرانك جانوزي، كان هو اليد اليمنى ورجل ثقة جون كيري (وزير خارجية أمريكا حاليا) لما كان يشغل مهام سيناتور، كما كان يشتغل في مجلة تابعة لوزارة الخارجية الأمريكية لا تباع للعموم، وهي المجلة المكلفة بإعداد التقارير لصانعي القرار بالولايات المتحدة الأمريكية لتسطير استراتيجية التحكم في العالم.
وفرانك جانوزي مكلف حاليا داخل منظمة العفو الدولية بتحديد التوجهات الاستراتيجية للمنظمة على المستوى العالمي بتناسق مع توجهات وزارة الخارجية الأمريكية.
أول مخطط لترجمة هذه الهندسة كان هو «تسريبات كولمان»، وهي التسريبات التي تزامنت مع تعيين المغرب لرجل محنك في منصب سفير بالأمم المتحدة بنيويورك، ألا وهو عمر هلال. فالتعيين الملكي تم يوم 15 أبريل 2014 والتسريبات بدأت في أكتوبر 2014.
لماذا؟ لتشويه صورة السفير عمر هلال وجعله غير مقبول في الوسط الديبلوماسي بنيويورك Infréquentable بحكم أن إلمامه بالملف الخاص بالصحراء ودرايته العميقة بتشعبات المنظمات الدولية وارتباطاتها (لا ننسى أن الرجل كان أحد ركائز المغرب بجنيف)، ولد الانزعاج من أن ينسف عمر هلال الدسائس بنيويورك مثلما نسفها في جنيف.
والمثير أنه في نفس السنة (يا للصدفة) اختارت أمنيستي المغرب ضمن 4 دول أخرى (نيجيريا - المكسيك - الفلبين وأوزبكستان) ليكون ضمن محور حملة دولية بعنوان «أوقفوا التعذيب» بشكل يوحي وكأن المغرب تحول إلى «مسلخ». والحال أن المرء لما يتفحص «مرتكزات» أمنيستي نجدها ترتبط بحالة «علي عراس» المدان في قضايا الإرهاب، علما أن مدانين في الإرهاب بأمريكا يوجدون في وضع أفظع وأسود من علي عراس ومغروسين في جزيرة عسكرية «غوانتانامو» لمدة سنين وبدون محاكمة، ومع ذلك لم تجرؤ، لا «أمنيستي» ولا غيرها على فضح الولايات المتحدة.
كيف لها ذلك ومعظم التمويلات تأتي من واشنطن عبر الوكالات العمومية أو عبر المانحين الأمريكيين الخواص الأغنياء الدائرين في فلك واشنطن.
«فريدم هاوس» و«هيومان رايتس» و«أمنيستي»: المشتل الأمريكي لزراعة سفراء الحقوق المسمومة!
لا يحتاج المرء إلى بذل مجهود ذهني بارز لتعقب جينات العاملين في المجال الحقوقي داخل المنظمات الدولية، إذ يكفي النقر على أي اسم داخل أي منظمة في الشبكة العنكبوتية لتتوالى المعطيات كاشفة عن تبادل للأدوار والمهام بين إدارة أمريكية أو منظمة دولية أممية أو منظمة غير حكومية.
وقراءة مسارات ثلاث منظمات غير حكومية يعطي الدليل على ذلك. ونقصد كلا من: «فريدم هاوس» و«هيومان رايتس ووش» و«أمنيستي أنترناسيونال»، إذ تعد هاته المنظمات الثلاث عصا الرمح بيد الإدارة الأمريكية لتوجيه الرأي العام من داخل الأمم المتحدة ومن داخل المنتديات الدولية وتسليط سيف ديموقليطس على هذه الدولة أو تلك.
المغرب، الذي ليس فيه بترول أو غاز، ونجا بسلاسة من تداعيات الربيع العربي، ظل البلد الذي فتح شهية «صانعي الانقلابات» وممولي «قلب الأنظمة» لتحويله إلى عراق جديد أو سوريا جديدة.
أليست تقارير كل هذه المنظمات غير الحكومية أو التقارير الصادرة عن الإدارة الأمريكية أو الأممية (المجلس الاقتصادي والاجتماعي) تحرص على التركيز في حديثها عن المغرب على وجود ثلاث إثنيات: عرب وأمازيغ وصحراويين؟ ألم تتقاطع هذه التقارير مجتمعة في هدف واحد ألا وهو إبراز أن المغرب ينهب «ثروات الأمازيغ» ويسلب «ثروات الصحرويين»؟ ألم تطفح تقارير هؤلاء بالمعطيات حول الاستعمال المفرط للقوة وللتعذيب بالمغرب؟
إن استحضار الشخصيات التي تتعاقب وتتناوب على المناصب (حكومية - أممية - مدنية) يبرز أن الحبر الذي تكتب به التقارير حول المغرب هو نفسه الحبر الذي تخط به الخارجية الامريكية وتكتب به الأمم المتحدة وتملأ به المنظمات غير الحكومية بياض أورقها.
خذ مؤسسة «هيومن رايتس» ستجد أن أحد أقطابها هو «خوان مانديز» الذي سيصبح مقررا أمميا حول التعذيب، وزار المغرب.
خذ «ماينا كياي»، وهو أحد أقطاب «أمنيستي» بإفريقيا وأصبح مقررا حول «حرية التجمع» بالأمم المتحدة.
خذ «هيلال هيلفر»HILAL HILVER المقررة الأممية حول التغذية التي زارت المغرب وهي زوجة «ريشارد فالك» RICHARD FALK أحد أقطاب مؤسسة مولاي هشام HICHAM ALAOUI FONDATION الذي يعد بدوره يعد عضوا نافذا بمنظمة «هيومن رايتس».
خذ «جورج سوروس»، المياردير اليهودي الامريكي متزعم إسقاط الانظمة الشرقية عبر إمبراطوريته المالية بإيعاز من جهاز المخابرات الأمريكية - حسب ما ذكرت عدة وسائل إعلام غير أمريكية - أليس هو نفس الشخص المتهم بالوقوف وراء إسقاط أنظمة عربية؟ ومن هو الملياردير «سوروس»؟ أليس هو الممول لمنظمة «فريدم هاوس» ومركز «كارنيجي» والمتبرع بأموال ضخمة لـ«هيومن رايتس» و«وشت»؟
خذ «فرانك جانوزي»، مدير «أمنيستي» بأمريكا، أليس هو رجل ثقة جون كيري وزير خارجية أمريكا هذا الأخير الذي يعد أكبر ركيزة لمنظمة روبيرت كينيدي؟
أبعد كل هذا يوجد ساذج يقبل بمقولة «حيادية» تقارير المنظمات غير الحكومية وطهرانية تقارير الأمم المتحدة وصفاء تقارير الإدارة الأمريكية؟
أليك وجاريد: عرابا الانقلابات العنكبوتية
في القرن العشرين كانت الانقلابات والإطاحة بالأنظمة تتم بالدبابات والطائرات، أما في القرن 21 فقد أصبح اللجوء للشبكة العنكبوتية لإنجاب «شي غيفارا سيبيرنيطقيي» أمرا سهلا. ويتمثل ذلك في حرص دول غربية ومنظمات تسبح في فلكها بتنظيم دورات وتأطير مجموعة من «المنشقين السيبيرنيطيقيين» la cyber - dissidence لقيادة «الثورة» ضد أنظمة بلدانهم. وفي أقل صورة لإنهاك حكوماتهم ونشر الأخبار الملفقة لجعل بلدانهم فريسة سهلة بيد الشركات الأمريكية والأوروبية.
فكما حرصت أمريكا على وضع «مخطط مارشال» اقتصادي عقب الحرب العالمية الثانية لتضع يدها على اقتصادات الدول الأوربية وعلى خزائنها، هاهي اليوم تضع مخططا آخر، لكنه «مخطط مارشال رقمي» أو «سيبيرنيطيقي»، وهو مخطط سهر عليه شخصان معروفان في محيط صنع القرار الأمريكي، وهما «جاريد كوهن» JARED COHEN و«أليك روس» ALEC ROSS.
ومعلوم أن جوليان أسانج (الإعلامي والناشط الإلكتروني الأمريكي، صاحب إصدارات ويكيليكس) كشف في كتاب صدر له في شتنبر 2014 الدور السري الذي لعبته الشبكة التواصلية «غوغل» في خدمة السياسة الأمريكية عبر خدامها التقنيين المحليين في مناطق عديدة من العالم. وبحسب أسانج فإن «غوغل «قد تمكنت عن طريق اثنين من مسؤوليها، وخاصة رئيسها أمريك شميت، وعملائه من خدمة الأهداف السياسية الأمريكية بتوظيف نشطاء حقوق الإنسان في العالم.
فعلى سبيل العلم فقط:
حين قامت ثورة 25 يناير 2011 في مصر برز نجم وائل غنيم كرجل الانتفاضة المصرية. وكان علينا أن ننتظر معرفة أن غنيم كان موظف شبكة غوغل في الخليج العربي،بل إنه كان يتولى منصب المدير الإقليمي في الشركة مكلفا بالتسويق لمنتجاتها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وكان قد خضع لتدريبات على يد الأمريكيين، تتوافق مع أهداف الثورة الرقمية. بموجب ذلك خضع وائل غنيم من النشطاء الحقوقيين في مصر وتونس إلى تداريب - أطرتها أمريكا- في قطر وتونس وأوكرانيا، وفي بلدان غير مكشوفة من الشرق الأوسط بهدف التناغم مع أهداف المركز في زمن الانتفاضة.
وبالعودة إلى الساهرين على مشروع «مخطط مارشال السيبيرنيطقي» نجد أن أليك روس ALEC ROSS كان قد عمل في السابق مستشارا لهيلاري كلينتون وزيرة الشؤون الخارجية الأمريكية السالفة. كما عمل منسقا عاما سابقا لحملة باراك أوباما في الجانب المتعلق بالمواقع الاجتماعية. أما جاريد كوهن JARED COHEN فكان المنسق الذي أشرف سنة 2008 على تحالف حركة الشباب Alliance of Youth Movements، وجمع 17 منظمة من منطقة «مينا» لتكوين الكتائب الإلكترونية على مهارات التعبئة والحشد وتوجيه الرأي العام وتلفيق الأخبار لإحداث التغيير في اللحظة التي تعطي الدول الغربية الإشارة. وقد تضمن جدول عمل تلك الدورة التدريبية:
1 - كيف تسبح في الشبكة العنكبوتية باسم مجهول دون أن تتعقبك مخابرات بلادك
2 - كيف تشتغل في المواقع الاجتماعية بكل حرية لحشد التعبئة الجماهيرية
3 - كيف تكون مدونا BLOGEUR منشقا سيبيرنيطقيا
وباستعادة تفاصيل ما حدث سنة 2011 نتذكر على سبيل المثال حركة 6 أبريل التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك، والتي شاركت في كل تلك المنتديات، كما شاركت فيه من ليبيا (حركة شباب ـ ليبيا)، ومن لبنان شاركت «حركة الشباب»، ومن المغرب كان في الدورة التدريبية أشخاص شاركوا من بعد في حركة 20 فبراير، أضف إلى ذلك حشد من اليمنيين والتونسيين والسوريين.
خوفا من أن تلصق بها صورة «الامبريالية» والتوحش كما كان يحصل في السابق، غيرت الولايات المتحدة الأمريكية من شكل تدخلها، وأصبحت تشتغل في العالم بأذرع عمومية ظاهرها «الاستقلال» وباطنها التحكم في كل توجهاتها من طرف الإدارة الأمريكية علما أن هذه المؤسسات العمومية تنتدب هي الأخرى منظمات مدنية وتوجهها نحو هدف ما.
وأهم هذه الأذرع نجد:
(الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية)
استلهمت هذه المنظمة وجودها وأهدافها من مشروع مارشال المقرر لإعانة أوربا الخارجة من أتون الحرب العالمية الثانية. وقد تأسست سنة 1961 من طرف الرئيس الأمريكي الأسبق ج. ف . كيندي.
الإطار الرسمي للتأسيس يؤكد انسجام الأهداف بين ما يريد العقل الأمريكي الرسمي تصريفه على مستوى العالم، وما يعطي الانطباع بالمسعى الإنساني العام.
من أهداف هذه المنظمة:
ـ التقليص من أوضاع الفقر ـ إنعاش الديمقراطية والنمو الاقتصادي ـ التخفيف من آثار الكوارث الطبيعية ـ توقعات الصراع في العالم. ولهذه الأغراض تمتلك المنظمة ميزانيات ضخمة
في سنة 2006 على سبيل المثال كانت ميزانيتها تقدر بـ 9.1 مليار دولار ممولة من الجهة المؤسسة المشار إليها آنفا. أما الرؤساء فيشهد لهم بالكفاءة في اختبارات التسيير في مواقع مختلفة من مناحي الإدارة الأمريكية ، بما يعنيه ذلك من كشف وسائل الإعلام الدولية لتدخلات هذه المنظمة بموازاة تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في البؤر المتوترة في العالم. وفي هذا الإطار كانت وسائل الإعلام قد كشفت وجود مخطط للانقلاب على النظام الكوري، عبر تعاون سري امتد من خلال توظيف شباب من فنزويلا والبيرو وكوسطاريكا.
المنظمة نشيطة إلى اليوم بنفس الأهداف.
المعهد الديمقراطي الوطني
تأسس هذا المعهد الأمريكي سنة 1983 بفكرة إدماج فكرة التأسيس مع شركائه في العالم : المنظمات غير الحكومة المعنية بحقوق الإنسان، وعن طريق هذا المبدأ تنص مقتضيات التأسيس على أن يتم تبادل المعلومات والتجارب والخبرات بين المركز (المعهد الأمريكي) والمحيط (التواجد في 132 دولة عبر العالم). أما تصريف هذه المبادئ فيتم على النحو التالي: مشاركة هيئات المجتمع المدني، ومشاركة المواطنين عبر التفاعل معهم عبر التجاوب مع حاجياتهم والإنصات إلى نبضهم العام.
مركزحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني
وعيا بدورها في التسخير السياسي والإيديولوجي في أفق الهيمنة على العالم، أنشات الإدارة الأمريكية سنة 1990 «مركز حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني (CHRHL)» بهدف ما تعتبره هذه الهيئة «دعم المبادرة في العالم من أجل نصرة الحقوق في العالم». ولتصريف ذلك كان مقر الهيئة بجامعة واشنطن (شعبة الدراسات القانونية) عن طريق الأشغال مع الطلبة والجامعيين والممارسين في قضايا البحث الأكاديمي، ودفعهم إلى البحث في ما تعتبره منظومة حقوق الإنسان على الصعيد الوطني و الجهوي والعالمي. بعيدا عن الاعتبارات المبدئية، يتحكم فيه المال، فإن المال هو الموجه الرئيسي لكل ذلك.
من هنا نفهم استراتيجيات الكثير من الدراسات التي تستعيد المنحى الاستراتجي القديم الذي يؤكد دونية ما هو خارج عن المركزية الأوربية والأمريكية، وما يسهل التمهيد للاحتلال المعرفي بعد أن تعذرت سبل الاحتلال المادي المباشر كما حدث منذ القرن التاسع عشر، وما يتجدد اليوم.
المعهد الدولي الجمهوري
حين تأسس هذا المعهد سنة 1983، أعلن ضمن مبادئه التأسيسية أنه منظمة أمريكية مستقلة عن التيارات الحزبية والسياسية، وأن هدفها الرئيسي هو «تنمية الديمقراطية ومبادئها، والعمل على نشرها في جميع أنحاء العالم». لكننا حين نتفحص لائحة المؤسسين سنفاجأ بالتوجهات المنخرطة في صلب استراتيجية الإدارة الأمريكية التي تتبدل أسماؤها بأقنعة مختلفة لكن الجوهر ثابت.
من هذه الوجوه:
- رئيس مجلس الإدارة السيناتور جون ماكين John McCain .
كما تشمل إدارة المعهد عددا من وجوه الإدارة الأمريكية مثل جين كيركاباتريك Jeane Kirkpatrick التي عملت سفيرة لأمريكا في منظمة الأمم المتحدة من عام 1981 وحتى عام 1985، وبرنت سكوكروفت Scowcroft مستشار الأمن القومي للرئيس السابق فورد Ford وبوش الأب George H. W Bush.
وبخصوص مناحي نشطاء المعهد الدولي الجمهوري فالأمر يؤكد تناغم أهداف الإدارة الأمريكية وتواجدها في العالم، من قبيل العمل في داخل الشرق الأوسط والعالم العربي، وتحديدا في العراق والأردن والمغرب وعمان وفلسطين إضافة إلى أفغانستان.
لتحقيق هذه الأهداف يشتغل المعهد الجمهوري الأمريكي بأذرع محلية في المناطق المعنية بتمويل من هذه الهيئة لخدمة المفهوم الملتبس للتنمية في العالم بالتوجه الذي بترضية الممولون.
فصل آخر من التسخير السياسي.
«خنجر إسرائيل» في أيدي أمريكية لذبح الأمة الإسلامية
هذا هو عنوان كتاب الصحافي الهندي «ر. ك. كرانجيا»، الصادر سنة 1958، والذي اشتهر كأبرز المناهضين للفكرة الصهيونية، وللإمبريالية العالمية في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية. قراءة نواف الزور تقدم للقارئ العربي صورة عن نظرة هذا الصوت الخارج عن السرب «الذي كشف النقاب عن وثيقة سرية أعدتها هيئة الأركان العامة الإسرائيلية جاء فيها: «لتقويض الوحدة العربية، وبث الخلافات الدينية بين العرب، يجب اتخاذ الإجراءات منذ اللحظة الأولى من الحرب لإنشاء دول جديدة في أراضي الأقطار العربية. ومما جاء على لسان قادة الجيش الإسرائيلي فيها أيضا».
وبحسب هذه القراءة فالخطط التي يرسمها الكيان الصهيوني تسير باتجاه «الهدف المزدوج التالي:
1 - الاستيلاء على الأراضي ذات الأهمية الجوهرية لنا في زمن الحرب وذلك كهدف أدنى.
2 - الاستيلاء على الأراضي الكفيلة بأن تسد كل احتياجاتنا وذلك كهدف أقصى.»
وفق نفس التوجه، وحسب قراءة نواف الزور «تقضي الخطة الإسرائيلية بتقسيم العراق إلى 3 دويلات: كردية في الشمال ينضم إليها الأكراد من الدول المحيطة، وعربية ذات أغلبية سنية في الوسط، وشيعية تلحق بإيران دينيا وسياسيا في الجنوب، وتقسيم سورية إلى 3 دول ايضا: درزية وعلوية وسنية، وتحويل لبنان إلى دويلتين شيعية في الجنوب ومارونية في الشمال. وعندما سأل الصحفي الهندي الجنرال ديان عن كشفه لمثل هذه الخطط كان رده: «لا تخف فالعرب لا يقرأون»!
ويخلص نواف الزور في تقديمه للكتاب إلى تأكيد «ما بين ذلك الزمن الصهيوني في الخمسينيات، والراهن العربي اليوم، نتابع كيف يوغل الخنجر الصهيوني في الجسم العربي، سواء بأيد أمريكية أو عربية.»
ومن جهتنا نؤكد أن قراءة الصحافي الهندي «ر. ك. كرانجيا» تصبح أكثر راهنية اليوم بالنظر إلى استمرار التعنت الإسرائيلي المستخف بالقرارات الدولية، وكذلك بالنظر إلى مشروع تقسيم العالم العربي الذي ظل يراود الكيان الاستعماري منذ نشأة الفكر الامبريالي في القرن التاسع عشر. وها هو يتجدد اليوم على أرض العراق وسوريا وليبيا، عبر منطق التقسيم وفكرة الفوضى الخلاقة، مهددا باقي الأقطار العربية ، بما فيها المغرب الأكثر. وتلك مفارقة زمن الاستعمار المتجدد اليوم!
BBG وسموم البث الإذاعي والتلفزي
يذكر المغاربة الاستياء العام الذي ساورهم في غشت 2003، حين شرعت قناة «سوا» الأمريكية في البث على امتداد التراب الوطني. لم تكن رد فعل المغاربة تعبيرا فقط عن الأذرع الإعلامية الأمريكية التي صارت تمتد على خلفية حرب الخليج الثالثة التي أدت إلى الهجوم على بغداد بدعوى امتلاك دولة صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل، ولكن أيضا لأن هذا الامتداد الأمريكي هو وجه جديد من أوجه سعي الإدارة الأمريكية للتحضير لإعادة التحكم في خريطة العالم، وفي المحيط الإقليمي المغاربي على وجه الخصوص.
كان علينا أن ننتظر فقط بعض الوقت لنعرف أن إذاعة «سوا» (المحطة الأجنبية الأولى المرخص لها في المغرب) هي مجرد ذراع إعلامي من الآلية الأمريكية التي أنشئت من أجل تسويغ القرار الأمريكي بعد قرار الإجهاز على العراق في أفق الإجهاز على العالم العربي.
الآلية الأمريكية التي لها علاقة بهذا الخصوص هي مؤسسة (BBG) ،broadcasting board of governos التي يمكن أن نضع لها المرادف اللغوي بالعربية «الوكالة الأمريكية لمراقبة الإذاعات والتلفزة الدولية» الممولة تحديدا من طرف الحكومة الأمريكية، والتي تدعي نفسها وكالة مستقلة تابعة للولايات المتحدة الأمريكية،مكلفة بمراقبة الإذاعات التلفزيونية والإذاعية والمحمولة من طرف الحكومة الأمريكية ضمن شبكات أخرى مماثلة من بينها إذاعة صوت أمريكا والقناة التلفزيونية «الحرة» وإذاعة «فاردا»...إلخ.
ولا يقتصر دور مؤسسة (BBG) على التنسيق الإذاعي والتلفزيوني بين عمل الأذرع الإعلامية (راديو أوربا الحرة وصوت أمريكا وراديو سوا وقناة الحرة...إلخ.) وعلى توجيه هذه الأذرع، ولكن كذلك على توجيه كشافات الضوء على النقط السلبية وتضخيم الاحتجاجات التي تقع واختيار الضيوف من صفوف الناقمين أو الحاقدين في كل دولة. هذه المؤسسة ? رغم أنها تابعة لوزارة الخارجية الأمريكية- فقد حرص الرئيس الأمريكي أوباما على ضعها تحت إبطه في عهد هيلاري كلينتون، لكن بمجرد أن حل جون كيري مكانها حتى حولت BBG لوزارة الخارجية ليتولى كيري الوصاية عليها.
للإشارة: فالترخيص المغربي لهذه القناة قد تم في خضم انتقاد الأحزاب السياسية المغربية لهذا الترخيص الذي يخرق القانون المغربي.
من ربيع الشعوب إلى «الربيع العربي»
حين انطلقت الحركات الاحتجاجية الأولى في تونس ثم مصر سنة 2011 أخد الإعلام الغربي يبحث عن أسماء لتلك الهزات الكبرى التي دفعت بالرئيس التونسي زين العابدين بنعلي إلى الهروب، مثلما دفعت بالرئيس المصري حسني مبارك بالتنحي عن السلطة. لم تكن سياقات البحث بريئة لأن المعجم اللغوي غير بريء تماما. ومن هناك وصف البعض ما يحدث بالثورات أو الانتفاضات أوغيرها من المرادفات إلى أن استقر في القاموس الإعلامي تعبير «الربيع العربي» الذي يتناغم مع الأهداف الغربية، والأمريكية بشكل خاص، هذه الأهداف التي تبني خطط تحكمها على العالم منذ الزمن الامبريالي إلى اليوم، الذي نعيش فيه حقبة الجيل الثالث الذي يتم فيه توظيف المنظمات غير الحكومية بموازاة مع التوظيف الرقمي.
لقد اختير تعبير «الربيع العربي» تيمنا بربيع الشعوب الذي شهد الثورات الأوربية سنة 1948، واستلهاما لربيع براغ الذي عرفته الجمهورية الاشتراكية التشيكوسلوفاكيا (سابقا) في يناير 1968 في أوج الحرب الباردة.
الآن، ومع وجود المسافة يتم الإقرار بأن اسم «الربيع العربي» كان توظيفا لغايات سياسية بعد أن انكشفت مخططات التفكيك التي التفت حول المطالب المشروعة للشعوب، وهو ما يتم إلى اليوم عبر إقرار فكرة «الفوضى الخلاقة» التي تهدد السيادات الوطنية ووحدة الشعوب.