شهدت باريس عمليات "إرهابية"، وصفت بأنها الأعنف من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية، وقبلها كانت بيروت وأنقرة، واللائحة طويلة.. ورغم التفاعل العاطفي الذي تخلفه صور المجازر التي تنقلها شاشات التلفزيون، والتي تجعلنا نطرح كثيرا من الأسئلة حول مصير الإنسان والإنسانية؟ وهل نحن في خطوة ارتدادية صوب البربرية عوض أن نرقى في اتجاه الأنسنة؟، إلا أن هذا لا يجب أن يحجب عنا محاولة رؤية الصورة كاملة، ومن زوايا متعددة لتجميع شظايا الأنسنة المكسورة، واستشراف مستقبل تباشيره لا تدع مجالا للتفاؤل.
قبل سنوات قال المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري إن الإرهاب هو في الواقع "صراع الحضارة الغربية مع منتجاتها".. ونضيف نحن اليوم إنه نتاج مباشر "لتوافق واشنطن" بين تاتشر وريغان، والذي كرس النيوليبرالية في صيغتها الأكثر وحشية وافتراسا، وأعلن نهاية الدولة الراعية للمجتمع، وتحولها إلى الدولة الراعية لمصالح الشركات الكبرى.
لقد شرعنت الحكومات الغربية لنهب الثروات -متناقضة مع كل الخطابات الديمقراطية والإنسانية...إلخ التي تبلورت في القرن الأخير- عبر دعم الأنظمة الاستبدادية التي تخدم أجندات الشركات المتعددة الجنسيات في العالم بأسره، وساهمت بما فيها فرنسا في تجويع شعوب بأكملها، وفي قيادة انقلابات عسكرية بإفريقيا وغيرها، وتزييف الحقائق والإرادات الشعبية، وعرقلة الديمقراطية، وضرب أي منظومة خارجة عن النسق العام الذي يخدم الحكومات الغربية، والتي هي في الواقع مجرد أداة في يد الشركات المتعددة الجنسيات.. ويكفي هنا أن نلتفت إلى صرخات مناهضي العولمة أمثال جان زيغلر، وجون بركنس وغيرهما، ممن أماطوا اللثام عن حقيقة الجرائم الاقتصادية التي ترتكبها هذه الشركات ورعاة مصالحها، وكيف تكدست أكثر من 90% من ثروات البشرية في يد أقل من 10% من المافيات الاقتصادية.
بل الأكثر من هذا، احتضنت الحكومات الغربية الدول الراعية للإرهاب والحاضنة الفكرية له "السعودية أنموذجا" مادامت خادمة لمصالحها؟ ألم يسلح الغرب داعش ويتواطأ معها وهي تتوسع وتتمدد؟؟ ما دامت تخدم توازناته الاقتصادية والسياسية بالمنطقة؟ ألم تغازل الحكومات الغربية السعودية وتمنحها رئاسة مجلس حقوق الإنسان وهي واحدة من أكثر الدول انتهاكا للكرامة الإنسانية؟ ألم يسكت الغرب عن الجرائم التي ترتكب في اليمن وغيرها؟؟ هل هناك من ينسى مغازلة الحكومات الغربية لنظام القذافي وآل سعود والقطريين وغيرهما من الأنظمة الاستبدادية لمجرد أنها ترعى المصالح الغربية؟ إن الإرهاب الذي نراه اليوم هو في أحد أوجهه انعكاس مباشر لكل الاحتقانات التي خلفها "توافق واشنطن".
لكن، ألم تجد هذه الاحتقانات بيئة حاضنة لنمو التطرف، الذي تحول إلى "عنف معولم"؟ ألم تجد شعوبا تقدس نصوصا تراثية عمرها أكثر من ألف سنة تلفظ بالعنصرية والتحريض على الآخر؟ ألم تجد شيوخا يقتلون الجمال والفن والإبداع ويحاصرون النقد ويشيعون كل صيغ التكفير والتحريض والطائفية؟؟ ألم يجد الإرهاب في مناهج دراسية تشيع الجهل والقولبة والتنميط وتزرع شعورا بالاستعلاء وبملكية السماء والتفوق في مواجهة كل مختلف بيئة مطورة له؟ ألم تشكل نصوص ابن تيمية، وفتاوي علماء آل سعود، وشيوخ الفضائيات، والتاريخ الإسلامي الممتلئ بالعنف، وأحاديث البخاري التي وضعت في سياقات تاريخية معينة شرعنة للمجازر وللدم؟
ألا نوجد اليوم أمام مجتمعات تبتهج بالقتل والدماء وتعتبره واجبا مقدسا وتنفيذا لأوامر إلهية؟؟ ألم تساهم تراكمات قرون مضت في تكوين شخصية إسلامية تنزع نحو العنف تجاه كل مختلف؟ ويكفي هنا أن نتأمل النصوص التاريخية التي تتحدث عن المعارك بين السنة والشيعة، أو السنة بعضهم أو الشيعة بعضهم، وكيف أصبح عقل المسلم يطبع مع أنهار الدماء، يكفي أن نتأمل أحاديث البخاري ومسلم وغيره، وأنباء الغزوات والسرايا والفتوحات، يكفي أن نقرأ عن انتصارات الخلفاء "المسلمين"، وأن نطالع سير معاوية ويزيد والعباس السفاح وأبو جعفر المنصور...إلخ، التي يرفعها المسلمون إلى درجة القداسة، ويرفضون أي قراءة نقدية لها.
يكفي أن نتأمل كل النصوص والكتب التي تزخر بها مقرراتنا الدراسية ومكتباتنا، حتى نفهم أن صناعة العنف تمت منذ زمن طويل قبل توافق واشنطن وأن "العالم الإسلامي" شهد تدميرا ممنهجا برعاية الاستبداد السياسي المتحالف مع الأصوليات الدينية ليمنعا انبثاق أي وعي جمالي/نقدي/إنساني.
إن عمليات باريس وبيروت وغيرها، تطرح أسئلة راهنة وملحة، إذ كيف نستطيع أن نضمن عدم تحول هذه العمليات إلى شماعة لضرب كل المكاسب الحقوقية التي ناضل ويناضل من أجلها المجتمع المدني في العالم بأسره طيلة عقود؟ كيف نضمن الموازنة بين الحق في الأمن باعتباره واحدا من أسمى الحقوق الإنسانية ومجمل الحريات الفردية والجماعية دون أن نترك الفرصة لغيلان حقوق الإنسان والمتربصين بها من أجل استغلال الإرهاب لممارسة الردة الحقوقية؟؟ كيف نستطيع منع الإرهاب من أن يصبح صناعة نيوليبرالية لإحكام قبضتها أكثر فأكثر على العالم، والسير بنا نحو مجهول لا يخدم إلا المافيات الاقتصادية الكبرى المستفيد الأول والأكبر من "الإرهاب."
إننا نوجد اليوم أمام تحالف ثلاثي مقدس بين النيوليبرالية والاستبداد والتطرف الديني، قد يقودنا إلى الهاوية، ما لم تقم كل القوى الحية والتنويرية بالاشتغال على تفكيك أضلاع هذا الثالوث من خلال الاشتغال وبشكل عاجل ومتكاثف على العدالة الاجتماعية، والحكامة الأمنية وحماية حقوق الإنسان، وتثوير النصوص الدينية، وإعادة قراءة جذرية ونقدية للتراث الديني... إن هذه المداخل السابقة هي الأساسية والضرورية لإنقاذ الإنسانية من خطر تحولها صوب البربرية.