السبت 16 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

سالم الكتبي: روح "المسيرة الخضراء" هوية شعب

سالم الكتبي: روح "المسيرة الخضراء" هوية شعب

أزور المملكة المغربية الشقيقة كثيرًا في مهام عمل، ولعشقي لهذا البلد العربي الأصيل، وكان من أبرز ما يشغلني ويطوف بذهني من تأملات هو تلك الروح الوطنية الوثابة التي يتميز بها الأشقاء في المملكة المغربية، وهي روح مختلفة في سماتها وما يرتبط بها من انفعالات مشحونة بالعاطفة الجياشة عن شعوب عربية وأجنبية أخرى، باعتبار أن الوطنية قاسمًا مشتركًا لبلدان العالم وشعوبه كافة، ولا جدال في ذلك، ولكن تبقى السمات والانفعالات والتجليات لتشكل مساحات اختلاف وتمايز هوياتي وثقافي بين شعب وآخر وأمة وأخرى.

ظللت أربط هذه الروح الوطنية المغربية الجياشة بكثير من المحطات التاريخية المفصلية، ولاسيما الحقبة الاستعمارية التي شكلت معالم الشخصية الوطنية في معظم دول العالم التي خضعت للاستعمار الأجنبي في فترات سابقة من التاريخ، ولكني وجدت أن الماضي القريب يلعب هو الآخر دورًا مؤثرًا في بناء الشخصية الوطنية والتأثير فيها ربما بقوة تفوق الحقبة الاستعمارية بمراحل، كما هو الحال في الشقيقة مصر، حيث شكلت حرب السادس من أكتوبر عام 1973 أساسًا للوطنية المصرية المعاصرة.

في المملكة المغربية الشقيقة، أرى أن المسيرة الخضراء محطة تاريخية مفصلية في الدراسات المتخصصة المعنية بتتبع هوية الشعب المغربي وتاريخه النضالي وما يزخر به من محطات أسهمت جميعها في تأصيل الروح الوطنية وتجذرها، فالمسيرة الخضراء لم تكن خطب ولا دروس نظرية في العمل الوطني، بل ممارسة واقعية وسلوك حقيقي ترجم قيمة إنسانية نبيلة هي حب الوطن، ووضعها في إطارها الذي تستحق.

منذ دعوة صاحب الجلالة المغفور له بإذن الله تعالى الحسن الثاني ـطيب الله ثراهـ إلى المسيرة الخضراء في أكتوبر عام 1975، وحتى ظهور هذا المشروع الوطني الخلاب إلى أرض الواقع في نوفمبر من الشهر التالي، جرت مياه كثيرة في وديان الوطنية المغربية، وكان الاستعداد لتلك المسيرة المظفرة، وفهم أبعادها الوطنية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتخطيطية بمنزلة غرس ضرب بجذوره في التربة الوطنية المهيأة بطبيعتها لتلقي مثل هذه الأفكار، بحكم وطنيتها وأصالتها وتاريخها النضالي العريق.

ولاشك أن روح المسيرة الخضراء هي أحد ركائز وأعمدة الهوية المغربية، بل الدولة المغربية ذاتها، باعتبار هذه الروح المتفجرة إحدى القيم الإنسانية والوطنية التي ولدت عبر هذه المسيرة، وتحولت إلى ورقة مولدة للطاقات ومحرك معنوي متجدد للعزيمة والإرادة المغربية في مختلف مجالات العمل والإنتاج، وهذه القوة والإرادة هي التي تزود هذا البلد الشقيق بسياج واق يوفر له الحصانة والمنعة الاجتماعية والسياسية والثقافية من التأثيرات السلبية لما يدور في الجوار العربي من فوضى واضطرابات ومحاولات مستمرة لاختراق الجبهات الداخلية للدول وتفتيتها والعمل على تقسيمها وتشتيت شعوبها.

لا أبالغ ـ علميًا ـ حين أدعو إلى دراسة المسيرة الخضراء وتأثيراتها الايجابية في تعميق الهوية الوطنية المغربية، فربما نكون نحن في دول مجلس التعاون من أكثر الشعوب قناعة بدور الهوية في الحفاظ على وحدة الشعوب وتماسكها في مواجهة التحديات الخارجية، فقد تأسست دولة الإمارات العربية المتحدة على يد المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان على أساس هوياتي ـ قيمي قوي، أسهم ـ ولا يزال ـ في تمتين دعائم المجتمع الإماراتي وديمومة مسيرة البناء والتنمية التي يقودها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة حفظه الله.

"المسيرة الخضراء" كانت أيضا درس في التخطيط القانوني والعلمي والدبلوماسي، وانطوت على دروس وعبر بالغة في الأهمية لجهة الفعل الدبلوماسي، الذي يفوق في تأثيراته أحيانًا الفعل العسكري، ومن ثم كانت المسيرة بمنزلة ترجمة مبكرة تاريخياً لفكرة "القوة الناعمة" قبل أن تطفو على سطح الفكر السياسي والاستراتيجي في القوة العظمى المهيمنة على النظام العالمي القائم، وهي الولايات المتحدة الأميركية، التي طرحت هذا المفهوم للنقاش والتنفيذ عقب انهيار ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي السابق أوائل تسعينيات القرن الماضي، حيث تبلور مفهوم "القوة الناعمة"على يد المفكر المعروف جوزيف ناي من خلال كتابه الشهير "الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية" الصادر في التسعينات، ثم كتابه الأشهر "القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية" الصادر عام 2004.

"المسيرة الخضراء" تعبير تاريخي فريد عن المكون الثقافي والسياسي المغربي الفريد، وهو المكون الذي يتمسك بقدر هائل من المقدرة على التواصل والاستمرار ويمتلك روح أصيلة متجددة، يجسدها صاحب الجلالة الملك محمد السادس، رعاه الله، الذي يحرص على قيم الأصالة والعراقة ويقف عل  تاريخ بلاده جيدًا، ويمتلك مهارة الربان الماهر الذي يستطيع الإمساك بدفة القيادة بحكمة بالغة في أوقات الأزمات.