أتفق مع كثير من الإعلاميين وكثير من الحقوقيين المتشبعين بالخصوصية دون الكونية، على أن قضية السجال المفتوح حاليا هو المساواة بين الذكر والأنثى في الإرث، ليس في محله من حيث السياق والظرفية. لكن أختلف معهم فيما يخص المبررات المعتمدة، فرغم أنني لست مختصا في «الشرعيات»، فإنني سأحاول أن أجتهد خدمة لمبدأ المساواة المفترض تمثله نصا وروحا من قبل أي حقوقي يؤمن بمقتضيات القانون الدولي لحقوق الإنسان جملة وتفصيلا ودون انتقاء أو تمييز، وفي نفس الوقت دون تعارض مع المبادئ السمحة للديانات السماوية، التوحيدية/ الكتابية، والتي شاءت الأقدار الإلهية أن يكون الرسول (ص) آخر نبي لله.
ودون أن نثقل الكاهل ونوغل في سرد الخلفية الثقافية والاجتماعية التي نزل فيها الوحي على مراحل، يكفي الإشارة فقط إلى ظاهرتي العبودية ووأد البنات في المهد. ففي المقام الثاني بالأخص، وهي ظرفية شاذة كانت تؤشر للوضع اللاإنساني التي كانت تعامل فيه الأنثى بصفة خاصة، وقد جاء الإسلام لكي ينتزعها من درك الدونية التي كانت تقبع فيه، وبالتدرج كانت المرأة تسترجع كرامتها المفقودة، وكان الفضل للقرآن الكريم الذي فرض على معتنقي الإسلام أن لا ينزلوا عن الحد الأدنى، والذي هو طبعا نصف حظ الذكر من الإرث، بعد أن كان الحق عديما. وبالتالي ليس من المنطقي، وحسب سياق نزول الأسباب التسليم بأن الأمر يتعلق بسقف محرم تجاوزه، وفي ذلك تدرج وتقدير لوضعية مجتمع قيد «التحرر» من تمثلات بنية الجاهلية.
وبالرجوع إلى سورة النساء والحديث المرافق والنوازل، يتبين بأن باب الاجتهاد وحرية التقدير فسح، من أجل الاستدراك وخلق التوازن، فسح من خلال الوصية الواجبة والهبة والصدقة (مع حق الاعتصار التراجع عن ذلك فيما يخص الأبناء دون الزوجة) ، وفي آخر المطاف يعتبر هذا إحدى مداخل درء التوتر الذي قد يحصل في التأويل والتفسير، باعتبار أن هذه حقوق للناس غير متعارضة مع حقوق الله، وهي حقوق في جوهرها مادية ومالية، قد تكون نقدية أو عينية. وبالتالي لا يمكن أبدا خلطها مع «الحق الإلهي» الذي تستمد منه «الآداب السلطانية» أصول الحكم، خصوصا في الشق المتعلق بتوريث الحكم للخلف من الفروع، أو ما يسمى بولاية العهد. فلم يكن من الداعي أبدا استنجاد بعض الفقهاء والإعلاميين «التوفيقيين»، بمقتضيات الفصل 43 من الدستور، والتي تحصر انتقال الملك إلى الذكر البكر دون الأنثى. فقد تعلمنا بأنه ينبغي التركيز في الدفوعات الشكلية، خلال أي إدعاء لحق أو مطالبة باستيفائه، على مدى توفر المصلحة المشروعة التي تعنون للصفة، بغض النظر عن أهلية الإدعاء، فكلها شروط صحة الدعوى/ الادعاء، ودونها لا تقبل مسطريا. وبالتالي لا يمكن أن نجبر أحدا على إعمال مبدأ عدم التمييز في شأن محفوظ واقعيا ودستوريا للملك ومن سيخلفه، فهو مجال حقوق خاصة وغير قابلة للتنافس، وليست حقوقا مشاعة.. لذلك وجب الحذر من المحاججة والإقناع المنتج إلى المزايدة خارج منطق فلسفة الحق وحكمة التشريع، فلا دفع بدون مصلحة.
وإذا كان لابد من إقحام العام في الخاص والمصادرة على المطلوب، فإن الشجاعة الأدبية والنزاهة الفكرية تقتضي مناهضة التمييز من زاوية تكافؤ الفرص في شموليتها. ومن باب الشفافية الواسعة، فتعميم الحقوق، من زاوية المشاركة السياسية، في صناعة القرار والمصير، بالتداول، لا يعني سوى تمثل الديمقراطية غاية ووسيلة.. ومن التدرج والتواضع وتقدير حجم الأمور، في العلاقة مع القدرات وموازين القوة، تبلورت الحكمة، في شكل نقد ذاتي، لدى «قدماء» الجمهوريين فتبنوا مطلب الملكية البرلمانية، وبذلك برهنوا للتاريخ والجغرافيا أيضا أنهم «توفيقيون» أي يوفقون بين الحكم الوراثي وبين الديمقراطية المنشودة، دون حاجة إلى المغامرة السياسية، بالتدخل في الشأن الداخلي للأسر أو مناصرة أطرافها على أخرى، أو مصادرة الشرعيات القائمة وذلك بذريعة «الحق» في الخلافة .