انتخب مجلس النواب من الوعاء البشري المتشبع بتداعيات دستور 1962 ومن صلب عجين تشكيلات وإفرازات زمن الجمر والتدليس والقمع والتضليل ، وكلفت الحكومة المنبثقة عنه ، بنفس تمثلات الماضي ، بتفعيل الدستور الجديد في صيغة قوانين تنظيمية وقوانين تفصيلية ، غير أن أهم القوانين المؤسسة والمهيكلة للمستقبل رتبت في ذيل ما يسمى بالمخطط التشريعي ، وطرحنا كحقوقيين جدوى تكليف حكومة غير منسجمة ويرأسها حزب ذي علاقة شبه متوترة مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان ، وقبل أيام انتخبت المجالس الجماعية والجهوية ومجلس المستشارين ، في ظل قوانين تنظيمية ومساطر إجرائية تغترف من نفس المناخ المخضرم ثقافيا وسياسيا ، ويبدو أن الخط المرحلي للدولة ، المتوسط المدى قد تم إرساؤه على سكة ما بعد « الربيع » المغربي ، وبالتالي لن تشذ الخريطة النيابية والحكومية عن السياق المحددة ملامحه والمتوافق عليها ، صراحة وضمنيا ، والتي يمكن اختزالها في عنوان رئيسي يستنتج من التساؤل التالي « هل الأمر يتعلق بحظوظ أم حدود ؟ » أي بصيغة أخرى ،،« هل نحن بصدد الجواب عن حظوظ ميلاد دولة الجهات ، يتحول فيها رؤساء الجهات إلى ممثلين للدولة ، التي يعتبر الملك ممثلها الأعلى دستوريا ، أم نحن بصدد بلورة صياغة واقعية وعقلانية لحدود نجاح مقترح الحكم الذاتي ، عبر قنوات دمقرطة الجهات ؟؟» ، لعل اجتهاد الملك ، فوق الدستوري ، باستقبال رؤساء الجهات الإثنى عشر ، في غياب رئيس الحكومة ثم أدائهم القسم القانوني في حضرته ، يؤكد ويؤشر إلى التهيىء والتمرين على تحويل مجالس الجهات إلى « برلمانات » جهوية ، فهل يمكن اعتبار أن الخطوط العريضة صارت واضحة ومقبولة من جميع الأطراف ، وبالتالي ينتظر من أن حروب التسابق والتنافس على « قيادة » مجالس الحكامة والاستشارة لن تقع لأن المهم هو أن الحسم الاتفاقي قد وقع ؟ لكن ما مصير وكيف هو شكل أهم قسط من الترسانة القانونية التي يراد لها أن تنجز وتكون جاهزة بنشرها في الجريدة الرسمية خلال هذا الزمن التشريعي ، الذي لا يمكن ، في أحسن الحالات ، أن يتجاوز ، واقعيا ، أربعين أسبوعا ، خاصة وأن « مصيرية وحساسية » المشاريع تقتضي توافقات جدية وجيدة وعقلانية ، خصوصا في مجال الحكامة الأمنية والأمن القضائي وتدابير وضمانات عدم التكرار ، ذات البعد والوقع الأفقي والعرضي والعمودي ، الوطني والمحلي والجهوي ؟ ويبقى سؤال آخير للختم ، في إطار « آخر وليس بأخير » ، وهو المتعلق بمطلب إعادة الثقة ، خاصة وأن الخطاب الملكي أمام المجلسين ، كان ضمنيا يوحي بأن ما جرى كان تمرينا مفتوحا لكنه منضبط ومتوافق حول مسطرة « التحكم » فيه ، حيث كان الهدف منه تمرير رسالة « التطمين » للأحزاب التاريخية ، وفي نفس الوقت تأمين وجبر خاطر غيرها من الأحزاب المحتلة ، انتخابيا ، للصدارة ، على أن الطعن انفعالي وليس فعلي ، أي ليس سياسي ، هذا فيما يخص الثقة البينية ، مع أن الثقة العامة ، وهي المقصودة ، ينبعي أن تؤسس على جوهر الوعي بضرورة استكمال شروط الحقيقة والإنصاف ، فدمقرطة الجهات لن يمر دون المصالحة مع مواطنيها بجبر الأضرار حقيقة وبعقلنة تفعيل توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة ، التي لم تعد مجرد صكوك للقطع مع الماضي ونسيانه ولكن هي عقود والتزامات تبرر إمكانية توظيف نوع من « التمييز » الإيجابي تجاه ضحايا العهد القديم ، فالضحايا ، بمن فيهم مواطني الصحراء ، لا يهمهم بالأساس إدماجهم في دواليب صناعة القرار بقدر ما يعنيهم إدماجهم اجتماعيا ورد الاعتبار لذويهم ومساقط رؤوسهم بدمقرطة التنمية عن طريق تنمية الديموقراطية الجهوية ، التي لا تعني سوى ضمان التعددية والتنوع الثقافي بشكل يكرس حق الاختلاف خارج منطق الاثنوغرافيا والتعصب القبلي ، في زمن من السهل جدا أن يتحول فيه الترحال السياسي من مجرد تيه انتخابي إلى رحيل يرهن الخيار السيادي ، لأنه لا يمكن دائما تفسير إحراق الرايات وتمزيق الجوازات مجرد هذيان أو جنون أو وسيلة للابتزاز ، فالتراكم يخيف وقد يفند الأسطورة المشروخة والمكرورة ، إلى درجة الابتذال ، والتي تبرر الواقع بأن الأمر يتعلق فقط ب « حالات شاذة أو معزولة » ، فاحذروا إن الشذوذ قد يؤثر عند الإجابة على سؤال « الحظوظ أم الحدود ».
كتاب الرأي