السبت 16 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد القادر زاوي: العالم العربي والإسلامي.. في انتظار التسويات، الأسوأ آت

عبد القادر زاوي: العالم العربي والإسلامي.. في انتظار التسويات، الأسوأ آت

واهم أو حالم، ذاك الذي يعتقد أن إرهاصات لحظة التسويات لصراعات العالم العربي والإسلامي الدموية منها والسياسية بدأت تلوح في الأفق. كل ذلك مجرد أوهام وأضغاث أحلام، فلا يزال مطلوبا إراقة دماء أكثر، ولا يزال مرغوبا إذكاء مزيد من الحروب والصدامات الميدانية وإبقائها مستعرة، ولا يزال واجبا تأجيج أكبر قدر من المناوشات والمناكفات الدبلوماسية في مختلف المنتديات الدولية وتصعيدها، على أمل تحويلها هي الأخرى  إلى صراعات مسلحة.

وما يشجع على ذلك ليس فقط أن أرضية التأزيم جاهزة، وإنما ما تبديه مختلف الأطراف في هذه الصراعات والمناوشات من تحفز، وتأهب، وتعبئة متدثرة بأسمال شتى من المبررات التي تتراوح بين الدينية والقومية والوطنية الضيقة، والقادرة عند الضرورة على مضاعفة كل أنواع الشحن الطائفي والعرقي والقبلي وغيرها لذر الرماد في العيون بشكل يطمس جيدا جوهرها الحقيقي، الذي هو المصلحة الذاتية للدول وربما بصفة خاصة للأنظمة الحاكمة وللمستفيدين من التحلق حولها.

والواضح أن منحنى هذه الصراعات والمناكفات في تصاعد مستمر يستجلب أطرافا جديدة لحلبة الصراع، وينزع الأقنعة عن العديد من المواقف والتوجهات، عاصفا بما تبقى بين الأطراف من صلات، عاملا على توسيع الفجوات، معمقا بما فيه الكفاية الخنادق الفاصلة بين مكونات بعض المجتمعات، غارسا المزيد من الأسافين بين الكيانات، وداخلها بين الشعوب والحكومات، وباثا لكل أنواع الأحقاد والكراهيات.

وفي منطقة تلعب المكائد والدسائس والرغبات والنزوات والغرائز دورا طليعيا في اتخاذ القرارات مرجحة ما تنقله الولاءات لا ما تقترحه الكفاءات، لا غرابة في أن يكون التدخل الخارجي حاسما، وقويا وفعالا أكثر، بأهداف متباينة وحتى متضاربة، ووسائل متنوعة محرمة أو مشروعة عسكرية واستخباراتية وغيرها؛ مما يزيد الأوضاع توترا والصفوف تشرذما والنيران تأججا، ويمكن من التحكم في سيرورة الأحداث مستقبلا أو التأثير فيها على الأقل.

- إن الحالة السورية خير مثال في هذا السياق، حيث لم تعد الأزمة بين السوريين فقط. توارى البعد الداخلي إلى الخلف لتصبح جغرافية البلد مستباحة من الجميع، وساحة تنافس دولي حاد، مستدرجة جماعات متشددة مغامرة، وقوى دولية عديدة آخرها التدخل الروسي الذي جاء سافرا وعنيفا ليخلط أوراق المعادلة، ويزيدها سخونة، ويطيل أمدها خاصة بعد أن أتاح بضرباته الجوية المكثفة للقوات النظامية فرصة لالتقاط الأنفاس، ولرص الصفوف، واستعادة زمام المبادرة على أكثر من جبهة مشتعلة.

وكما كان متوقعا، فإن هذا التدخل الروسي المستفز استنفر ويستنفر المزيد من ردود الأفعال الدولية والإقليمية، التي ستسعى إلى منع موسكو من قلب معادلات الصراع على الأرض وتوريطها أكثر في المستنقع السوري، وتكبيدها خسائر بشرية ومادية فادحة على غرار ما حصل لها في المستنقع الأفغاني، الذي دام حوالي عشر سنوات خرجت منها منهارة ومفككة. وهذا نذير شؤم باستمرار مأساة الشعب السوري لسنوات أخرى طويلة غير مستبعد أن تنتهي بتقسيم البلاد، ولو من الناحية الواقعية في انتظار ترسيم ذلك بتسويات محلية تحت رعاية إقليمية ودولية عندما تلتقي إراداتها على صيغة معينة.

- وتنحو الحالة العراقية ذات المنحى من التعقيد والتشابك، حيث بعد حوالي سنتين من تمدد داعش في حوالي ثلث مساحة البلاد مستولية على الموصل كثاني أكبر مدينة في العراق، ما تزال الأوضاع كما هي على حالها في حالة كر وفر بين القوات العراقية وميليشيات الحشد الشعبي، وبين مقاتلي الدولة الإسلامية المزعومة رغم الضربات الجوية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ودخول تركيا إلى ساحة المعركة.

ومن شأن طول أمد المواجهة أن ينعكس سلبا يوما بعد يوم على التطورات السياسية الداخلية في العراق، حيث تزداد الشكوك بين مختلف الفرقاء السياسيين على خلفيات مذهبية وعرقية رغم كل التطمينات الممنوحة داخليا ودوليا للسنة العرب المتوجسين من تنامي قوة عسكرية غير نظامية بنفس طائفي شيعي هي الحشد الشعبي، الذي يغذي حضوره المكثف مخاوف جمة لدى الأكراد أيضا، والذين يواصلون تحصين مناطقهم في أفق استغلال أي فرصة سانحة للاستقلال التام، الذي سيكون مرفوضا من بقية المكونات العراقية الأخرى ومن بعض القوى الإقليمية؛ مما قد يفضي لا محالة إلى إطالة أمد التوترات في العراق هو الآخر.

- وفي اليمن، فإن التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية لم يحسم بعد الصراع ضد الميليشيات الحوثية وحلفائها من كتائب الرئيس السابق علي عبد الله صالح بالشكل الذي يساعد على عودة الشرعية إلى زمام السلطة في صنعاء. ويبدو أن هذا الهدف بعيد المنال في ظل المعطيات الراهنة، التي تميل إلى نوع استعادة التكافئ الميداني بين سلطة شرعية تقيم مؤقتا في عدن وتحظى بدعم تحالف عربي بغطاء قرار أممي، وبين سلطة أمر واقع وصلت بقوة السلاح إلى صنعاء وما تزال صامدة، مستمدة قوتها من الإسناد الإيراني المكثف لها، ومما تمتلكه من حسن التنظيم والانضباط العسكري والعقائدي.

وكمعظم الساحات حيث يختلط السياسي بالديني والمذهبي وكلاهما يتقاطع مع الجهوي والقبلي، فإن الساحة اليمنية مرشحة لاستمرار الاقتتال وللمزيد من الاستنزاف، بشكل قد يفرض عليها العودة إلى زمن الانقسام بين دولة في الشمال وأخرى في الجنوب، وربما يؤول مصيرها لما هو أسوأ مع أمراء طوائف تتشرذم معهم الخريطة السياسية إلى كانتونات متعددة ومتناحرة تظل جرحا مفتوحا على كل المخاطر وأمام أكثر من مغامر. وهذا ما بدأ يتبلور على نحو جنيني في شرق البلاد حيث تنفرد بسلطة الأمر الواقع جماعات لا تخفي انتماءها لتنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، إضافة إلى الحركة الحوثية في صعدة بالشمال.

- ولا تشذ ليبيا عن قاعدة التدهور المتدرج للأوضاع رغم أن حدة الاقتتال بين الميليشيات المتنوعة الميول والأهداف أخف قياسا إلى الساحات الملتهبة الأخرى، وذلك منذ أن ثبتت أجواء حوار الصخيرات نوعا من توازن القوى بين الميليشيات المتناحرة التي تمترست كل منها في مناطقها، وفتحت نافذة أمل لحل متوافق عليه في البلاد ما يزال أسير أهواء كل من برلمان طرابلس الموجود كأمر واقع من جهة، وبرلمان طبرق المتسلح بالاعتراف الدولي بشرعيته من جهة أخرى.

إن التجاذب الانتهازي المنطلق من المصالح الذاتية في معظم الحالات بين السياسيين الليبيين في حوار الصخيرات يتيح مساحة أوسع للميليشيات المسلحة للتحرك في الميدان بعيدا عن أي مراقبة أو توجيه سياسي؛ الأمر الذي يضاعف توتير الأوضاع المستعرة من قبل على خلفية النزاعات القائمة بين قوات اللواء خليفة حفتر من جهة وميليشيات فجر ليبيا من جهة أخرى، وبسبب سعي داعش إلى توسيع الرقعة الجغرافية الخاضعة لها؛ ناهيك عن قوة تدخلات القوى الإقليمية المجاورة لليبيا الراغبة في أن يظل المتشددون هناك بعيدا عنها وعن حدودها، يستقطبون المتشددين من أبناء شمال إفريقيا بعيدا عن أوطانهم ليقتلوا بعضهم البعض.

وتشي التطورات والمستجدات على مختلف الساحات العربية والإسلامية بأن التوتر في المنطقة لن يتوقف عند الساحات الملتهبة فقط، الغارقة في حروب أهلية بلا آفاق سياسية واضحة، وإنما سيمتد إلى غيرها بشكل أو بآخر حسب الظروف الموضوعية والمعطيات الداخلية لكل دولة على حدة في توظيف واضح لمجموعة من العوامل أهمها :

1- التماس الجغرافي والشكوك التي يزرعها والحزازات التي يولدها:

تعتبر حساسية التماس الجغرافي من بين أهم الدوافع التي حدت بتركيا إلى التخلي تدريجيا عن سياسة صفر مشاكل مع الجيران، لتتورط تدريجيا وعسكريا في آخر المطاف في كل من سوريا والعراق، لاسيما وأن التطورات هناك أيقظت المارد الكردي، الذي شكل دوما هاجسا مؤرقا للدولة التركية بغض النظر عن الحكومات المتعاقبة في أنقرة. ومن شأن هذا التورط الذي يصطدم بطموحات الأكراد في وطن قومي يجمع أشلاءهم الموزعة على أربعة دول حاليا أن يطيل أمد الصراعات في المنطقة.

إن هذا الجوار الجغرافي المشوب برواسب من انعدام ثقة تاريخي والمصحوب باضطرابات مجتمعية حادة، هو الذي فرض على بعض دول الخليج الانغماس العسكري المباشر في الساحة اليمنية تحوطا من انعكاساته السلبية المدمرة، وذلك من خلال قيادة تحالف عربي يروم نصرة الشرعية الدستورية، التي يمثلها الرئيس عبد ربه منصور هادي، واحترام المبادرة الخليجية للخروج من الأزمة التي ضربتها ميليشيات الحوثي عرض الحائط.

ولا يوجد أدنى شك في أن الانغماس الخليجي في أتون المستنقع اليمني سيتواصل. هذا ما توحي به معلومات موثوقة تشير إلى أن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز أخبر كبار الأمراء من العائلة الحاكمة بضرورة الاستعداد، تقشفا وسلوكا، لعشر سنوات أو تزيد من الصراع في المنطقة قصد كبح جماح الأطماع الإيرانية. فهذه الأطماع تجاوزت التشويش والمناوشات هنا وهناك لتمتد إلى عقر الكيان الخليجي نفسه بتكرار الادعاءات المتعلقة بمصير مملكة البحرين، التي يجري تأجيج الأوضاع فيها علانية بمنطق طائفي ومذهبي يجعل البلاد عرضة لكافة المخاطر المحتملة.

ويبدو من الإصرار الخليجي الواضح على ضرورة تقزيم القوى الحوثية في اليمن، وإعادتها إلى حجمها المعتاد في مناطق نفوذها الطبيعية في صعدة أن الهدف النهائي هو منع حركة أنصار الله الحوثية من أن تعيد نسخ تجربة حزب الله اللبناني، الذي نشأ حركة لبنانية صرفة، وتحول مع الزمن وفي غفلة من الجميع إلى قوة إقليمية مؤثرة في عموم المنطقة، وعامل استقطاب لتعبئة شيعة المنطقة ضد دولهم بمن فيهم بعض من شيعة دول الخليج، الذين ثبت تلقيهم تدريبات عسكرية في معسكرات حزب الله في جنوب لبنان.

2- تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية:

لا خلاف على أن تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ناجم عن محدودية اقتصاديات الريع السائدة في دول المنطقة رغم مداخيلها الكبيرة، وعلى أن هذا التفاقم هو الذي يدفع في اتجاه استئثار فئة صغيرة للغاية من أقرباء الأنظمة وحاشيتها بالثروة والسلطة، ما يوسع دائرة المهمشين والناقمين السهل استقطابهم حينها للجماعات الإرهابية، التي تنشط في مثل هذا المحيط البائس حيث البون شاسع بين مستوى الانتظارات وواقع الإمكانيات، وحيث يتراجع دور الحكومات تدريجيا عن تحمل مسؤولياتها عن الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والنقل، تاركة المواطنين عرضة للابتزاز من طرف قلة من منعدمي الضمير الباحثين عن الاغتناء السريع.

ويكمن في هذا المعطى جزء كبير من عوامل استمرارية الأزمة بنكهة دموية في مصر خصوصا في سيناء حيث تنشط جماعة أنصار بيت المقدس فرع تنظيم داعش في أرض الكنانة. كما يمكن على ضوئه تفسير ظاهرة مواصلة الجماعات المتطرفة تجنيد الأتباع والمناصرين والانتحاريين من أبناء العشوائيات والمناطق المعوزة في البلاد؛ وذلك على الرغم من إمساك النظام الجديد بالوضع السياسي إلى حد كبير، ومضيه في تنفيذ خريطة الطريق التي سنها منذ وصوله إلى السلطة.

وحسب العديد من المراقبين، فإن هذه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الهشة هي سبب استمرار التحديات الأمنية للجماعات المتطرفة في تونس رغم نجاح مسلسل الانتقال الديمقراطي. ولا يستبعدون أن تكون في المستقبل المنظور عاملا رئيسيا لانفجار احتقان الوضع الاجتماعي في الجزائر، بشكل قد يمكن الجماعات المتطرفة من استعادة وهجها، لاسيما إذا تواصل انهيار أسعار النفط، ومعه إجراءات التقشف التي يفرضها على الحكومة بتزامن مع انبعاث طموحات منطقة القبائل في تقرير المصير، ومع شلل سياسي في قمة هرم السلطة نتيجة الوضعية الصحية لرئيس الجمهورية وغياب خارطة طريق واضحة وشفافة لخلافته مستقبلا.

3- تأجيج الخلافات الداخلية والنزاعات الحدودية المفتعلة:

لقد نشأت معظم الدول العربية الحديثة بإرادات استعمارية أبت إلا أن تترك خلفها وعن قصد تشوهات جغرافية وتقسيما لمجموعات بشرية على الحدود المشتركة بين هذه الدول في أفق استغلالها مستقبلا لضمان استمرار نفوذها على المنطقة، المطلوب ألا تستقر، وأن تظل مواردها مستنفرة عسكريا لتستنزف في شراء الأسلحة بدلا من توجيهها للتنمية الحقة.

وقد تأتت لها الاستفادة كثيرا من التشوهات التي أحدثتها، وذلك في ظل طغيان الأنانيات الفردية لبعض القوى الحاكمة هنا وهناك، التي عجزت عن بلورة إرادة مشتركة عامة على الصعيد العربي أو محدودة على صعيد التجمعات الإقليمية بغية تجاوز خلافات الحدود المصطنعة من خلال الاعتراف بالحقائق التاريخية والموضوعية، وعبر السعي إلى تأسيس كيانات تكاملية أكبر وأشمل تشكل عنصر قوة للجميع.

إن الاستفادة القصوى من توظيف الخلافات الداخلية تجلت بوضوح في السودان، الذي عاش على مدى عقود طويلة حربا أهلية طاحنة انتهت بانفصال الجنوب عن الشمال، وها هي تهدد كيان الشمال بالتجزئة في إقليم دارفور بصفة مستعجلة مع استمرار التوترات والتناحرات وعجز الحكومة المركزية في الخرطوم عن طرح بدائل ديمقراطية حقيقية تستوعب طموحات الساكنة المحلية في هذه المناطق، وتلبي تطلعاتها إلى تسيير شؤونها المحلية بنفسها، وتزيل عنها الغبن الذي تشعر به، ما يعني أن السودان في شكله الجديد بعد انفصال الجنوب سيظل مستعرا غير قادر على استشراف مستقبله ولو القريب.

وغير خاف على أحد أن النزاعات الحدودية لعبت دورا كبيرا في توتير مناطق عديدة في العالم العربي والإسلامي ومع جواره المباشر، إن كان ذلك في كشمير التي لا تزال مصدر توتر كبير بين باكستان والهند أو في الجزر الإماراتية (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى ) المحتلة من طرف إيران الرافضة لأي مقاربة سلمية لحل هذا الخلاف؛ ناهيك عن أن حكم محكمة العدل الدولية بشأن النزاع حول جزيرة حوار بين قطر والبحرين لم يمنع بقاء نوع من ظلال الشك والريبة في علاقات البلدين تماما كما حصل في الخلاف بين ليبيا وتشاد.

ويمثل التعنت في منع نزع فتيل الخلاف المفتعل حول الصحراء المغربية أكبر دليل على إصرار واهم حول إمكانية استغلال مثل هذا المعطى الحدودي لتعطيل تطور منطقة بأكملها ضدا على رغبة شعوبها. والقلق في الآونة الراهنة مشروع خشية أن يتطور الأمر إلى سعي محموم لتوظيف هذا النزاع في زعزعة استقرار المنطقة المغاربية برمتها. وهو قلق صادق يرتكز على استقراء واقعي لما يروج في العديد من الكواليس والمنتديات الإقليمية والدولية، حدا بالعاهل المغربي الملك محمد السادس إلى التحذير من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة من مغبة الانسياق وراء التصورات والمقترحات المغلوطة، وما تحمله من خطر على الأوضاع في المغرب العربي.

وما من شك أن التطورات الراهنة والمستجدات المتسارعة في المنطقة، وضيق هامش المناورة أمام استشراف حلول وسط عوامل تنبئ بالاستمرار في تأجج الصراعات المدمرة دون هوادة، وبالاستماتة في توتير باقي المناطق غير الملتهبة إلى أقصى درجة ممكنة. والهدف هو حرف أنظار الشعوب عن صراعاتها الحقيقية ضد الظلم والفقر والبؤس والتهميش، وإلهائها في البحث عن البقاء فقط من دون اكتراث كيف يحصل ذلك، سواء أكان بالهروب الجماعي كما يحصل الآن نحو أوروبا بموجات من المهاجرين غير الشرعيين أو بالاحتماء في الانتماءات الدونية الدينية أو المذهبية أو القبلية، التي تتلاشى معها كيانات الدول نفسها ، لتعود الناس شعوبا وقبائل للتناحر وليس للتعارف.

ويتغذى هذا الواقع المأساوي، ليس فقط من انعدام الثقة المطلق السائد حتى داخل الكيان الواحد، وإنما من رغبات دولية وإقليمية تود تواصل الانهيار. ألم يشكل نأي الأمريكيين بأنفسهم عن أزمات المنطقة وتركها لمصيرها وما تفرزه التفاعلات داخلها عاملا مشجعا على الانحلال والتفكك بإذكاء مخاوف البعض وفتح شهية الأطماع لدى البعض الآخر. ألم يغر هذا الفراغ قوى دولية وإقليمية بالتقدم لملئه.

في هذا الإغراء تتجلى بوضوح وعلى سبيل المثال حقيقة السياسة الإيرانية الممتنعة عن حوار جدي وصادق مع العرب، وليس فيما تدعيه عن عدم وجود محاور عربي واحد وموحد لها. إن حرب طهران الطائفية مع العرب تجري على أراضيهم وبأبنائهم فكيف لها ألا تواصل المغامرة ما دامت خسائرها المادية معقولة والبشرية طفيفة للغاية.

من السهل تفسير ما يجري بالمؤامرة، ولكن قبل مناقشة هذه المؤامرة، إن وجدت، ينبغي الحديث عن الغباء الذي تنطلي عليه، وعن الاستبداد الذي يمهد لها الميدان. وتلك قصة أخرى.