حتى هذه اللحظة، يمكن القول بأن الأميركيين والروس يخوضون في سوريا حربا، يتنافسان فيها ويتعاونان، بل يطالبان بعضهما البعض بالمزيد من التعاون التنسيق، فوق أرض واحدة، وضد جبهة واحدة، هي أرض سوريا. وهما يكرّران بدأب، على أن حربهما هذه لن تنزل إلى "البرّ السوري"، لن تكون برية، لن يكون لهما رجال يُقتلون على الأرض، وإن حربهما ستنحصر في الجو، عبر الطائرات المقاتلة، حيث لن يطالهم موت، ولا دماء. تعلّم الأميركيون دروسهم في العراق وافغانستان، فكانت سياسة أوباما الانكفائية؛ فيما الروس، بعد "درسهم الأفغاني" مع الأميركيين، كرسوا عهدهم الجديد من الحروب في أوكرانيا، حيث لم يرسلوا قواتهم إلى شبه جزيرة القرم إلا بعدما تأكدوا من "سلمية" احتلالهم لها، وعملوا بالمقابل، على حدودهم الشرقية مع أوكرانيا، على تسليح رجال ميليشيات، سموهم "حركة إنشقاقية"، يتولون بأنفسهم مهمات الموت أو القتل المباشر ضد القوات الأوكرانية الشرعية (لاحظ: في أوكرانيا يرسل بوتين مسلحيه ضد السلطة الشرعية، وفي سوريا، يرسل طائراته بناء على "طلب السلطة الشرعية").
والأميركيون والروس، في هذه الرقصة، يشبهون عنترة بن شداد، الذي كان لا يحب مواجهة خصم ضعيف، والذي كان يمدح بالشعر شجاعة أعدائه، كأنه بذلك يرسي لنوع من "العصبية" التي تجمع خيرة الأقوياء والشجعان. وهذه "عصبية" أرستقراطية، تأبى التبارز مع الأضعف منها، حفاظا على هيبتها. مع أن الحرب التي تخوضها روسيا وأميركا هي من أجل هيبة بلادهما، من أجل أمنهما القومي، من أجل تعزيز هيمنتهما على العالم، وكلها أعلى المصالح على الإطلاق. وأهداف كهذه تستحق تضحيات، ولكن الاثنين يأبيان إلا أن تكون مغامرتهما "نظيفة"، من فوق، تهطل على أهدافها بسلاسة، مثل المطر.
كل ظروف هذه الحرب وسياقاتها تلائم امتناع الجبارين عن التضحية بحياة من يحملون جنسيتهما؛ أولا، أنها ليست أرضهما ولا مدنهما ولا عمرانهما. سوريا التي يقصفونها بطائراتهم ليست روسيا ولا أميركا. إنها أرض بعيدة، غريبة، ومهما عبثا فيها ولعبا، فحسابهما لن يكون عسيراً. أما الذين يخسرون أرواحهم في هذه الحرب، فهم السوريين، باختلاف جبهاتهم، فضلا عن اللبنانيين والعراقيين والفلسطينيين. على رأس أولئك الخاسرين لأرواحهم أولاً، المدنيين من السوريين، وهم الأعلى نسبة من بين الضحايا، ثانيا حاملي السلاح من السوريين، من الجنود والشبيحة المنضوين تحت راية النظام السوري، ومن مجموعات سلّحها الأميركيون والخليجيون والأتراك، ومن ميليشيات منظمة بإمرة إيران، مكوَّنة أساسا من لبنانيين، "حزب الله"، وبعض المجموعات العراقية الموالية لإيران. والأهم من كل ذلك، أن هؤلاء الذاهبين إلى الموت على الأرض، في الحرب البرية، سواء كانوا مع النظام أو ضده، فقدوا تماما دورهم، ومبادرتهم وسيادتهم وحريتهم في تقرير مصيرهم.
لا يحتاج الأمر إلى عناء كبير لترتسم صورة هذه الحرب عن قرب: عظيمان يخوضان حربا تنافسية تعاونية من أجل تحديد حجم حصتهما المقبلة في بلد منهار، لا يطلقان على بعضهما النار، يرميان هذه البلاد بالقنابل من طائراتهم... وفي المعمعة نفسها، وعلى المسرح البري لهذه البلاد، يتعامل أهلها وجيرانهم مع هذه الحرب، يسقطون ويهجّرون ويدمّرون... فتكون حرب مراتب وطبقات بين الأمم، يحتل فيها الأميركيون والروس أعلى قممها، وتأتي شعوب المنطقة في أسفلها. ويحتل أوسطها الإيرانيون، الذين خسروا حتى الآن خمسة من كبار قادة حرسهم "الثوري"، كإشارة إلى أنهم، قبل الغزو الجوي لبوتين، كانوا يحضرون بالقطّارة؛ أما بعد بوتين، فهم يتوافدون بالآلاف برّاً، ليقدموا تضحياتهم البشرية؛ وهم بهذا الاستعداد للتضحية بأرواح مواطنيهم، يسجلون تراجع رتبتهم الإقليمية.
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)