الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

المريزق المصطفى: "المهنة أستاذ جامعي... والصفة مستشار": التغيير المنشود.. من طرف من؟ ولفائدة من؟

المريزق المصطفى: "المهنة أستاذ جامعي... والصفة مستشار": التغيير المنشود.. من طرف من؟ ولفائدة من؟

لقد حاولت منذ مدة أن أتخلص من نواقص الوظيفة السياسية التي اخترتها عن طواعية في إطار الالتحام مع ثلة من الرفاق والأصدقاء، من منطلق تبني مغامرة نقدية ومجهود جبار لفهم الظواهر الاجتماعية والثقافية أكثر من أي وقت مضى.

وتضمن هذا الاختيار الإيمان العميق بتوجهات وتطلعات وطموحات قد تكون وسيلة لتطوير تجربة سياسية قائمة على فرضية التغيير المنشود والحتمي.

واليوم أتساءل بصوت مرتفع: عن أي تغيير يجب أن نتحدث؟

لم يكن انتقالي من موقع تجربة سياسية إلى أخرى من أجل البحث عن موقع ما من مواقع دائرة "المعارضة الرسمية"، أو الاختباء وراء أسوارها من أجل تبرير ممارسة سياسية يشتبه فيها أن تكون تحريضية تدعو للاحتجاج على غلاء المعيشة والبطالة ومطالبة بتعميم الحق في الصحة والتعليم والشغل والسكن واحترام حقوق الإنسان وإطلاق سراح الطلبة المعتقلين وغيرهم من المناضلين المعتقلين في قضايا سياسية، وإعمال آليات المناصفة والعدالة الاجتماعية وإقرار الحريات الفردية والجماعية في المجتمع.

كما أدرك اليوم تمام الإدراك، أن اختياراتي السياسية، ورغم الصعوبات الناشئة في المحيط السياسي التي انتمي إليه؛ تدفعني إلى ضرورة البحث عما تنطوي عليه السمات الثقافية العامة من بدائل وما يختفي تحتها من خصوصيات حتى يمكن فهم الثقافة السياسية السائدة في حد ذاتها وتكامل أجزائها.

وقبل الجواب عن سؤال التغيير، لا بد من طرح المشكلة الأساسية المتعلقة بالسلطة السياسية في بلدنا والتي تظهر في شخص "أفراد" أو "مواطنين" أي باعتبارهم "أشخاصا سياسية" كما يسميهم نيكوس بولانتزاس. وإذا كانت هذه السمات من سمات الدولة الرأسمالية التي تبدو دولة شعبية تقوم مؤسساتها على احترام مبادئ الحرية والمساواة ولا تستمد شرعيتها من المشيئة الإلهية، فإن التغيير المنشود في بلادنا مازالت تتفاعل فيه العديد من العوامل الاجتماعية والثقافية (بوصفها حصيلة تاريخية) ذات الطابع المركب والمتناقض لعملية التحديث (القبيلة، الحكم المركزي، المعتقدات والشعائر والسوق...).

كما لا بد من التذكير بطبيعة المجتمع، والذي يعتبره علماء الاجتماع ميدانا للتنافس الاجتماعي، حيث تتنافس الجماعات حول الثروة، والقوة، والمكانة. وهذا ما نعيش مثله في المغرب، حيث نجد الجماعات التي تحكم الدولة، هي الجماعات التي تفرض إرادتها وتتحكم في توزيع موارد المجتمع.

إن الاستمرار في النضال في سبيل تحقيق التغيير وتأمينه يعتبر أمرا لا غنى عنه من أجل التقدم، لكن الأمر هنا يحتاج إلى تحديد شامل ومتقن ودقيق لطابع التيارات الإيديولوجية ومضامينه وعلاقاتها وتحولاتها وتأثيراتها على ضوء موقعها ودورها في جهود انجاز مهام التغيير المنشود.

إن الاندفاع الرئيسي الذي حرك ومازال مسارنا، موجه بشكل واضح ضد المواقف الرجعية والنظريات الماضوية والايديولوجية الظلامية، أي تلك الأقسام من الدولة العميقة المرتبطة أوثق ارتباط بالنمط الاجتماعي والثقافي المعادي للتغيير.

إن مهمة المقاومة السياسية والإعلامية المستمرة في تجربتنا، نريد أن تصب تأثيرها باتجاه إحداث تغييرات في ميزان القوى لمصلحة التواقين إلى التغيير. ويتعلق الأمر هنا بفضح ودحض أعداء الديمقراطية وخوض نضال إيديولوجي ضد القيم العدوانية المناهضة للتغيير، وضد النزعة الظلاموية بكل تياراتها القومية والعنصرية والمتطرفة.

وفي إطار بحثنا المضني لمحاولة فهم الوظيفة السياسية التي اخترناها كما قلت في مقدمة المقال، لا بد من التأكيد على أننا لا نقف موقف الشك والرفض من نهج المجابهة. كما أننا عازمون على قول حقيقة مواقفنا من كل ما يجري للقوى المناضلة الصاعدة خاصة قوى البرجوازية الصغيرة وأقسام من فئة المثقفين والطلبة والفنانين، من أجل تطوير وإغناء عقلية بديلة ديمقراطية وحداثية.

إن هذا التعاطي مع موضوع التغيير، هو تمرين على إثارة الجدل ضد إيديولوجيا الحرب ضد التغيير والمعاداة العدوانية لما راكمه الشعب المغربي من تضحيات جسيمة، وهو كذلك البحث عن أساليب للتعامل مع المواقف السياسية والإيديولوجية للقوى المشاركة في صنع التغيير.

إن الأمر لا يتعلق هنا فقط بتأثيث المشهد السياسي بالأحزاب السياسية للجواب عن سؤال التغيير المنشود، بل إن الأمر يتعلق بتناول جميع القضايا الأساسية في مجتمعنا: فمنها ما يتعلق بالتقدم الاجتماعي وبمستقبل المغاربة، ومنها ما يتعلق بالمشاكل المرتبطة بالجوار والمحيط القطري والعالمي. وفي هذا المجال يكتسب الصراع الفكري حول البرنامج الاجتماعي والثقافي الذي يجب أن نؤمن به وندافع عنه أهمية متزايدة الآن وأكثر من أي وقت مضى.

وفي الأخير، وفي إطار النبش والتواصل مع "النباشين" حول العنوان الرئيسي الذي اخترناه للأجزاء الثلاث لمقالنا، والذي حمل عنوان "المهنة أستاذ جامعي ... والصفة مستشار"، وجدت جزءا من ضالتي في ما كتبه ذات يوم السوسيولوجي اللامع، المرحوم اللامع بول باسكون، عن الجامعيين والباحثين في نص "الغاية من علم الاجتماع القروي" -من ترجمة مصطفى المسناوي- حيث قال: "أما الجامعيون والباحثون ورجال القلم فيفيضون في الخطاب وينشرون ويطبعون من أجل نصب المعالم المحددة لحقلهم، وضمان موقعهم فيه، والترقي ضمن تراتبية هرمية، ومضاعفة رأسمالهم الرمزي والبشري والعيش على الريع المباشر وغير المباشر لهذا الرأسمال، ريع مباشر بئيس هو ريع حقوق المؤلف، ومتواضع هو ريع محاضراتهم الجامعية؛ وريع غير مباشر هو ريع الحظوة ضمن هيئتهم وحزبهم ومجتمعهم، وريع الكوكبة الدولية (من ندوات ومحاضرات ودعوات وبعثات)".

إنه دور نعتز به من منطلق مساهمة الأستاذ الباحث في مهام إنتاج المعارف العلمية والتكنولوجية والإبداع والانفتاح على العالم والمساهمة في الحياة الديمقراطية وتقوية النسيج الاجتماعي، وتطور الممارسة الثقافية والدعوة لاحترام الرأي والتربية على المواطنة وممارسة النقد البناء من أجل تغيير ما يمكن تغييره في إطار السلم والسلام.

إن شرعية مثل هذا الخطاب، لا يؤكدها الأولياء وتراجمهم، بل هي امتحان مستمر لا نريد منه لا قبة ولا حوشا أو مقاما، سوىالمساهمة في توفير حلول لا يمكن أن يرفضها أي من الفاعلين الديمقراطيين.