الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

دلال البزري: المدد الألماني ومصالحه

دلال البزري: المدد الألماني ومصالحه

قبل اندلاع أزمة اللاجئين المتدفِّقين على أوروبا، وقبل أن تفتح ألمانيا ذراعيها لهم، كانت ألمانيا هذه، بعلمائها واختصاصييها قد أصدرت سلسلة من الدراسات تؤكد على تناقص يدها العاملة، في المستقبل القريب، نتيجة تراجعها الديموغرافي، وترى بأن يداً عاملة أجنبية سوف تملأ فجواتها المستقبلية. فكّرت ألمانيا بمصلحتها، عند تدفق اللاجئين إليها، وارتاحت، ربما لأول مرة بعد سقوط النازية، لأنها سوف تكون هذه المرة متصالحة مع القيم التي بنَتْ أوروبا الحديثة، ومع المعاهدات الإنسانية التي صاغت هذه القيم، وعلى رأسها، استقبال لاجئي الحروب وإيوائهم ومساعدتهم على بناء حياة جديدة على أرضها.

ألمانيا لم تخفِ مصلحتها، ولا خجلت منها، ولا خافت من التفكير بمستقبلها. ولكن وُجد بيننا من يأخذ عليها تحديداً هذا السلوك، فـ "ينقدها" على العمل بمصلحتها، عل "خبثها" على "دموعها"، على "أنانيتها"... بأن كلا، "لم تقم إلا بمصلحتها"، المتطابقة مع مصلحة اللاجئين إليها... بل وُجد من تذاكى على قرائه، فكتب، معتقداً بأنه يذيع سرّاً، عن "الخبراء الاقتصاديين الألمان الذين يضعون الخطط المنهجية لاستقدام العمالة من الخارج وتنظيم عمليات الهجرة بشكل مدروس باتجاه المصانع"، حيث "العبودية الرأسمالية"، و"الاستغلال" و"السجن الكبير"... وما إلى هنالك من عبارات لا تستحق ذكراً أكثر من ذلك. المهم أن هؤلاء الذين اعترتهم الريبة من "الموقف الألماني"، لأن ألمانيا "تعمل بمصلحتها"، يعبّرون عن أعمق ما في ثقافتنا من تشوّهات: والقائمة على عيب المصلحة، أي الحظر على الكلام عن المصلحة التي تدفع فرداً أو أمة للقيام بأي مشروع، ومبادرة، أو فكرة. المصلحة كأنها حرام. المصلحة بصفتها عورة لا يجوز الكشف عنها، لأنها بالضرورة شريرة، أو ظالمة، أو ضارة... المصلحة شرّ، وكل من يعمل لمصلحته شرير. هذا على صعيد القول، الذي لا ينفصل عن الممارسة، ولكنه يملي على صاحبها عدم القيام بأمر إلا إذا كانت تلبي مصلحته، الخفية، التي لا يمكنه الاعتراف بها، وإلا فشل كل شيء. نحن شعوب تعشق ما تسميه مصلحتها، ولكنها تبغض الإفصاح عنها، فهي ليست نبيلة ولا ذكية ولا ممتلئة، بل خالية تماماً من الرؤية... فيكون تقليدها الثقافي المزْمن، المستعد دوماً لإدانة الذي يعملون لمصلحتهم، وبأشد التعابير؛ ومنها مصلحة اللاجئين في إيجاد بلدان تأويهم.

ولكن هناك شيئاً آخر أيضاً: هناك القيم الأوروبية، اللازمة التي عبَرت كل الألسنة الأوروبية، من ألمانية وفرنسية وبريطانية وغيرها: لازمة القيم التي تحثّ على استقبال اللاجئين، مساعدتهم، إيوائهم. هي اللازمة، أو الإطار الذي حكم سلوك أوروبا عموماً، وكانت الغربية منها، تلك التي بنَتها الرأسمالية، أكثر استجابة لها، شعبيا ورسميا، فيما أوروبا الشرقية، وريثة الاشتراكية والتضامن الطبقي وما إلى هنالك... تغلق حدودها على اللاجئين، وتعاملهم بقسوة، وترفض استضافتهم. مع أن أصواتا يمينية متطرفة ومعتدلة كانت تعاكس منظومة القيم الأوروبية، فتقول بأنه ليس من مصلحة أوروبا استقبال لاجئين سوف يهددون لاحقا ثقافتها وهويتها ودينها. لو كان هذا اليمين المتطرف حاكما اليوم، وأغلق أبواب أوروبا تماماً على اللاجئين، يا ترى، كيف ستكون ردة فعل "نقاد المصلحة"؟ يشتمونها طبعاً، هذه المرة لأنها لم تستقبلهم... لوثة ثقافية عنيدة.

الاستقبال الأوروبي، الألماني خصوصاً، للاجئين السوريين، وكل ما دار حوله من كلام وأحداث صغيرة، يشير بلا مواربة، إلى سقوطنا الأخلاقي المدوّي: نحن ننجرّ إلى حروب بين بعضنا البعض، نصدِّر إلى الغرب البؤس واليأس والمأساة، ونستورد منهم القتلة "المجاهدين" الذين سيعودون فيرفعون عدد الذين نصدّرهم... وهكذا. لا نكتفي بنقص وعينا بمصالحنا الفردية والجماعية، بالخلط بين مصلحتنا وعصبيتنا البدائية، بل لا نملك أي إطار أخلاقي يحكم مسالكنا ورؤانا؛ وما دهن أي فعل من أفعالنا بـ"الإسلامية" سوى طلاء، باتت شدة رقّته تقفز إلى العين المجرّدة.

ولكن هناك أملاً: المدَد الألماني بيّن أنه لا يوجد جوهر أبدي وثابت لدى أي شعب من الشعوب. الألمان أنفسهم الذين انجروا إلى النازية منذ سبعين عاماً، واقترفت حكومتهم المنتخبة الفظائع بحق البشرية، ها هم الآن صاروا ألمانا آخرين: تغيرت ظروفهم، فتغيرت عقليتهم. كانوا نازيين، فصاروا أبطالاً في الإنسانية... بل إن ألمانيا الراهنة، القاسية مع اليونان في الضغط لفرض التقشّف عليها، هي نفسها التي فتحت ذراعيها للاجئين. ومفاد القول أننا، نحن العرب، يمكن أن نكون غير ما نحن عليه، يمكن أن نتحول يوماً ما إلى أمة واثقة من نفسها، سعيدة، قوية، قادرة على مداواة جرحها الخاص، والجرح البشري معه، ومتخلّية عن عنفها وكراهيتها تشتتها. من يدري...؟

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)