Sunday 15 June 2025
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: الشعبوِية تتناقض مع أحزاب سياسية تدَّعي أنها ديمقراطية

أحمد الحطاب: الشعبوِية تتناقض مع أحزاب سياسية تدَّعي أنها ديمقراطية أحمد الحطاب
الشعبوية le populisme في المحال السياسي تتمثَّل في اتِّخاذ بعض الأحزاب السياسية أو بعض الشخصيات السياسية الرأيَ العامَّ أو الشعبَ كمطيةٍ تركبها لتحقيق بعض المآرب وعلى رأسِها، الوصول إلى السلطة من أجل السلطة. وبعبارة أخرى، هذه الأحزاب أو الشخصيات تُنصِّب نفسَها ناطقاً رسمياً باسم الشعب دون أن يُكلِّفَها هذا الأخير بهذه المُهمة. وبمعنى أوضح، الحزب السياسي أو الشخصية السياسية تفرض نفسَها على الشعب مُدَّعية أنها تتحدَّث باسمه وتدافع عن مصالحه. 
 
والحقيقة، كل الحقيقة، الشعبوية ليست إلا نوعٌ من الديماغوجيا la démagogie والانتهازية l'opportunisme السياسيتين، إن لم نقل نوعا من النفاق السياسي تلجأ لها كلُّ الأحزاب السياسية والشخصياتٌ البارزة في المشهد السياسي الوطني لبلوغ كراسي السلطة.
 
كل الأحزاب السياسية، بدون استثناء، تستعمل الشعبوية لتحقيق مآربِها، وتدَّعي أنها تنطق باسم الشعب وتدافع عن مصالحه. لكن حزباً سياسياً يدعي أن له مرجعية إسلامية، وبالأخص، أمينُه العام الجديد القديم، بَالَغَ، إلى حدٍّ كبير، في اللجوء إلى الشعبوية لاسترجاع ما ضاع من حزبه في انتخابات سنة 2021. 
 
ولهذا، فالشعبوية التي يمتطيها هذا الأمين العام، الجديد القديم، ليست إلا بهلوانيات سياسية الهدف منها هو محاولة وضع غطاءٍ على ما تعرَّض له حزبُه من فشلٍ ذريعٍ في انتخابات 2021. وبالتالي، كل ما يقوم به هذا الأمين العام، الجديد القديم، ليس إلا مسرحية سيٍّئة الإخراج يعرف مقاصدَها القاصي والداني.
 
فعندما تلجأ شخصيةٌ سياسيةٌ مرموقة إلى الشعبوية، فاعلم أنها، وحزبها، فقدت المصداقية داخلَ المشهد السياسي الوطني ولم يعد أمامها إلا اللجوء لهذه الشعبوية لاسترجاع هذه المصداقية. لماذا؟
 
لأن أحزابَِنا السياسية، كلها، تعرف أن الشعبويةَ وقاموسَها اللغوي (مفرداتها) محبوبين أو مطلوبين عند شريحة عريضة من الناس. والشخصية السياسية التي تلجأ إلى الشعبوية، تتفنَّن في تطويع القاموس اللغوي الشعبوي لتستخرجَ منه ما يُرضي الشريحةَ العريضةَ من الناس.
 
حينها، يصبح إرضاءُ هذه الشريحة العريضة من الناس هو العمود الفقري لخطاب الشخصية السياسية، وبالتالي، لم يعد أمامَ هذه الأخيرة إلا المزيدَ من الإرضاء، ولو أدى هذا الإرضاء إلى سبِّ وشتمِ الغير والنيل من كرامتِه. وما لم تنتبه إليه الشخصيةُ السياسية أو تتعمَّد عدمَ الانتباه إليه، هو أنها لا تحترم لا نفسَها، أي مكانتَها في المجتمع،  ولا الغيرَ ما دامت الشعبوية تحقِّق ما تُخفيه هذه الشخصية عن الناس.
 
حينها، لا يهمُّ أن تتجاوزَ الشخصيةُ السياسيةُ حدود اللياقة. ولا يهمُّ، كذلك، أن تتجاوزَ ما تفرضُه الأخلاق الاجتماعية la morale sociale، وما يجب الالتزامُ به من أخلاقيات سياسية éthique politique. قد نقول إن اللجوءَ إلى الشعبوية من طرف شخصيةٍ سياسيةٍ مرموقة قد يُفقِدها ما كانت تحظى به من احترامٍ داخلَ المجتمع وما كانت تحظى به من تقديرٍ في المشهد السياسي الوطني.
 
وهذا هو، بالضبط، ما وقع فيه الأمينُ العامُّ، الجديد القديم، لحزبه حينما وصف جزأً كبيراً من المغاربة ب"المِكروبات" des microbes. والحقيقة أنه والشخصيات السياسية من أمثالِه، كانوا يظنون ولا يزالون يظنون أن اللجوءَ إلى الشعبوية، هو بمثابة ربحٍ للأصوات في الانتخابات. وهذا صحيح ما دام كثيرُ من المواطنين يربطون اختيارَهم الانتخابي بشعبوية الشخصيات السياسية.
 
والجدير بالذكر، أن الشعبوية المُمارسة من طرف الشخصيات السياسية تسيء، أولا وقبل كل شيءٍ، لهذه الشخصيات وللأحزاب السياسية التي ينتمون لها. والغريب في الأمر أن كلَّ أحزابنا السياسية تدَّعي أنها ديمقراطية، علماً أن الشعبوية هي أول ما تنبذُه السياسة الممارسة بمعناها النَّبيل. ما يهمُّ الأحزاب السياسية والشخصيات البارزة فيها، هو أن ما يُحقِّقه اللجوء إلى الشعبوية لا تُحقِّقه ممارسة السياسة بالمعنى النبيل.
 
غير أن الذاكرة الجماعية لا تنسى ما تعرَّضت له من احتقار  وسبٍّ وشتمٍ. بل لا تنسى وصول الحزب السياسي إلى السلطة، والذي وضعت فية الثقة الكاملة والذي سَحَرَها بشعبوية شخصياته السياسية. لا تنسى فتنتقم، و وسائل انتقامِها هي صناديق الاقتراع. لماذا؟
 
أولاً، لأنه طال الزمان أم قصر، فالشعبوية، إن استطاعت أن تُسحِرَ العواطف، فإنها لا تُسحِر العقول. وفي نهاية المطاف، تستيقظ العقول وتشتغِل وترى وتُلاحِظ أن الشعبويةَ كان هدفُها الأساسي هو الوصول إلى السلطة من أجل السلطة، لا أقل ولا أكثر، وليس إيجاد حلول للمشكلات الأساسية، الاجتماعية والاقتصادية.
ثانياً، ولما تستيقظ العقول ويتمُّ تشغيلها، يتبيَّن للجميع أن كلَّ أحزابنا السياسية والشخصيات المرموقة التي تتميٍَز بها، ليسوا إلا أُناسا مهووسين بالوصول إلى السلطة من أجل السلطة. وخصوصا، إذا سبق لهذه الشخصيات السياسية أن شغلت مناصب عليا في دواليب الدولة كرئاسة الحكومة والاستوزار…
بمعنى أن الشخصيات السياسية المرموقة يجب أن تتصرَّف كرجال ونساء دولة لها من الصفات ما يُميِّزها عن باقي الناس.
 
من بين هذه الصفات أذكر، على سبيل المثال، ما يلي :
-الشعور بروح المواطنة وحب الوطن
-القدرة على التفكير الثاقب وبعد النظر
-التَّمتُّع باستقلالية الفكر لاتخاذ القرارات الاستراتيجية في الزمان والمكان المناسبين
-القدرة على تدبير الأزمات واستشراف ما قد يترتَّب عنها من عواقب
-تحليل الأحداث بموضوعية وتكييف الفِكرِ معها
-الإحساس بالنزاهة وبالمسؤولية إزاء النفس وإزاء الغير
-التواضع وعدم الاستعلاء على الغير
-عدم استغلال الموقع السياسي للبحث عن الثراء
-الإحساس بضرورة خدمة الصالح العام
-القدرة على التواصل والتَّفاوُض
-القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة
-عدم الاستسلام للعواطف ومنعها من التأثير على اتخاذ القرارات
-الدِّراية بقواعد الحكامة الجيدة
-القُرب من الشعب والشعور بهمومه…
 
هذه هي بعض مواصفات نساء ورجال الدولة. السؤال الذي يفرض نفسَه علينا هو : "مَن هم النساء والرجال السياسيون الذين تتوفَّر فيهم هذه الصفات؟
 
ما أعرفه، أنا شخصياً، أن هذه الطِّينة من النساء والرجال انقرضت، بعد الموت، وانقرضت معها كل هذه الصفات الحميدة التي كانت متوفرةً في السلف وكان من الضروري أن تنتقِلَ للخلف، علماً أن هذا الانتقال لم يتحقَّق. لماذا؟
 
أولاً، لأن السلف كان مشبَّعاً حتى النخاع بالمواطنة وحب الوطن. بل كانت هذه المواطنة وحب الوطن بمثابة دمٍ يجري في العروق، أي أن هذه المواطنة وحب الوطن لا تُفارقهم أينما حلُّوا وارتحلوا. إن لم نقل هذه الصفات كانت عندهم فِطريةً.
ثانيا، بقدر ما كانت روابطُ السلف السياسي المُنقرِض مع الشعب متينةً ومُرسَّخةً في وِجدانهما، هما الإثنان، بقدر ما تلاشت هذه الروابطُ عند الخلف. وبقدر ما كان للشخصيات السياسية من دورٍ في تذويب الخلافات بين القيادات الحزبية، بقدر ما أصبحت هذه القيادات مصدرا للتَّفرِقة، بل وإنشاء أحزاب سياسية جديدة.
ثالثاً، بقدر ما كان السلف متمسِّكاً بالنزاهة la probité والشفافية la transparence في التعاطي مع قضايا الشعب، بقدر ما أصبح الخلف فاقداً لهذه المزايا، وبالتالي، ناشِراً للفساد داخلَ وخارجَ الحزب. 
رابِعاً، بقدر ما كان السلف ضامِنا لتماسك الحزب une garantie de la cohérence du parti، بقدر ما أصبح الخلف مهتماً بالزبونية le clientélisme والمحسوبية le népotisme وأمورٍ أخرى أدَّت إلى فساد المشهد السياسي.
خامِساً، بقدر ما كان السلف مهووسا بضرورة توفُّرِ الحزب على "مشروع مجتمع" un projet de société، بقدر ما أصبح الخلف مهووسا بقضاء مصالحه الخاصة وبقضاء المصالح الضيِّقة للحزب.
سادِساً، بقدر ما كان السلف يولي اهتماماً كبيراً لتطوُّر المجتمع ويأخذ هذا التَّطورَ بعين الاعتبار، بقدر ما أصبح الخلفُ مهووساً بالوصول إلى السلطة من أجل السلطة. ومن أجل الوصول إلى السلطة، أبدعت الأحزاب السياسية القاسم الانتخابي le quotient électoral وطوَّرته مع طموحاتها الهادفة إلى الوصول إلى السلطة من أجل السلطة.
 
وما أختم به هذه المقالة، هو أن الشعبوية لن تصنع أبداً نساءَ ورحالَ الدولة. بل نساء ورجال الدولة، إذا جعلوا من الشعبوِية طريقا للوصول إلى السلطة من أجل السلطة، فإنهم، بتصرُّفهم هذا، يُساهمون في خراب المشهد السياسي. وليس هذا هو ما يرغب فيه الشعب المغربي!.