الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

وحيد مبارك: أطباء "الزيت والنار"

وحيد مبارك: أطباء "الزيت والنار"

أجّلت المحكمة الابتدائية الزجرية بالدار البيضاء إلى غاية الإثنين 14 شتنبر القادم، النظر في فحوى الدعوى القضائية التي رفعها أطباء ينتمون إلى إطار نقابي ضد مندوبة وزارة الصحة بآنفا، على خلفية اتهامها بالإساءة إلى الأطباء، خلال تصريحات أدلت بها في نشرة أخبار أدرجتها القناة الثانية، والتي تحدثت من خلالها عن غياب دائم للأطباء، وعن التقصير في أدائهم لمهامهم، وربطت ذلك بالحوادث الصحية الطارئة والوفيات التي تقع في صفوف الأمهات ببعض المستشفيات.

تصريح المندوبة لايختلف كثيرا عن مضامين تصريحات عدّة لوزير الصحة نفسه، رغم أنه الوصي الأول على هذا القطاع، لكونه أكّد في مناسبات عدة على أن كل الخدمات الصحية هي متوفرة في المستشفيات، محمّلا المهنيين مسؤولية عدم خدمة المرضى/المواطنين، خلافا للواقع الذي يؤكد ضعف البنيات الاستشفائية، والنقص في الموارد البشرية واللوجستيكية، مقابل "إفلاس" نظام المساعدة الطبية "راميد"، مما يرفع من درجات السخط ويزيد من تأجيج غضب المواطنين على المهنيين والذي أسفر غير ما مرّة عن اعتداءات طالت العاملين في قطاع الصحة بعيدا عن كل أشكال الحماية. إلا أنه وبعيدا عن كل هذا وبدون الوقوف عند عدد من التفاصيل، فإن ما يهمّنا هو واقعة الالتجاء إلى القضاء، الذي يعتبر حقا من الحقوق الدستورية، لكن مع التساؤل إن كان بالفعل هو الحلّ الوحيد، وهل تم سلك كل السبل الأخرى الممكنة، الاحتجاجية منها من خلال بيانات ووقفات وغيرها، أو تفاوضية عبر الجلوس إلى طاولة الحوار مع المسؤولين بكيفية إدارية متدرّجة؟ مما يؤكد على عمق الأزمة التي يعيشها قطاع الصحة، وكأن الأمر يتعلق بفريقين/خصمين متنافرين. مجموعتان لاتركبان نفس القارب المهدّد بالغرق بفعل الثقوب التي تعتريه، ليدخلا في مواجهة قضائية تزيد من توسيع حجم الهوة وعمق الشرخ؟

شرخ اتضحت بعض من ملامحه مرة أخرى، حين حضرت المندوبة إلى قاعة المحكمة مؤازرة بسبعة مناديب موزعين على تراب العاصمة الاقتصادية كشكل من أشكال الدعم، في حين حضر الأطباء المعنيون بالدعوى بصفتهم مشتكين، والذين كان نصيبهم حين عودتهم إلى مقرات عملهم جملة من الاستفسارات حول دوافع تغيبهم عن العمل، من طرف المناديب الذين ساندوا المندوبة المشتكى بها، والذين كانوا بدورهم غائبين عن مقرات عملهم، مع مايعني ذلك من عدم استحضارهم لمشاكل إدارية أو قضايا تهم مواطنين كان من الممكن أن تكون مطروحة في حينه بإلحاح، لكنهم لم يعيروا للأمراهتماما ، خاصة وأنه ليس هناك من يستفسرهم بدورهم عن تغيبهم، الأمر الذي لايمكن تسميته إلا "شططا" في استعمال السلطة الإدارية؟  

واقع بيّن وبالملموس حجم التفرقة القائمة بين أصحاب الوزرة البيضاء نفسها، بين فريق يمثل الإدارة وفريق آخر يريد المرافعة باسم باقي المهنيين، واللذين يعملان على تلطيخ بياضها عن سبق إصرار وترصد، في وقت غاب فيه صوت الحكمة والعقل، غاب من يمكنه أن يكون متبصّرا بين الجانبين، فيحول دون صبّ الزيت، ودون إيقاد النيران، لأنها في نهاية المطاف ستأتي على الأخضر واليابس ولن تميز بين الصالح والطالح.

 ألم يكن  حريّا بالمندوبة وهي تعطي تصريحاتها بكيفية ارتجالية، وبشكل "اندفاعي" أمام أضواء الكاميرا المشتعلة، أن تتأنى وتقدّر حجم وقع كلماتها المُحبطة على نفوس آلاف المهنيين، ليس فقط في آنفا وإنما على الصعيد الوطني، الذين يكدّون ويجتهدون، سواء تعلق الأمر بأطباء أو ممرضين أو أعوان وإداريين وغيرهم، في ظروف هي في غاية القساوة والبشاعة، في ظل إمكانيات هزيلة إن لم تكن منعدمة، يقومون بمختلف الأدوار حتى يستجيبوا لطلبات المواطنين؟ لقد كان عليها أن تقدم أرقاما ومعطيات عن عدد الاستفسارات التي تم توجيهها لمن ضبطوا بالفعل متغيبين عن مقرات العمل، وعن حجم الحالات التي تم إيقافها عن العمل أو التي اتخذت في حقها عقوبات إدارية لتأكيد تصريحها، لكي يكون بإمكان الجميع معرفة الفئة المعنية بتصريحها لا أن تطلق الكلام على عواهنه!

أداء المندوبة ، وبعيدا عن وقائع الدعوى المعروضة على القضاء، لايسلم من عديد من الانتقادات، والتي تجمع على دعوتها لتكون ممثلة للإدارة بنظرة محايدة، تتعامل مع المكونات النقابية على قدم المساواة، وأن تعمل على إشراك الفاعلين الاجتماعيين لا أن تحابي طرفا و"تكافئه" لأنها تتقاسم معه نفس الانتماء النقابي، كما هو الشأن في تعيينها لمسؤول نقابي كنائب ممرض رئيسي لمصلحة التجهيزات دون إخضاعه لمسطرة إيداع الترشيحات مما يضرب في الصميم مبدأ تكافؤ الفرص، وبالقطع مع ممارسات يؤكد المتضررون منها أنها تهدف إلى استفزاز المهنيين الذين لهم انتماءات نقابية أخرى والتضييق عليهم، كما هو الحال بالنسبة لإجبار بعض فئات الموظفين على المصادقة على الشواهد الطبية من طرفها رغم وجود لجنة إقليمية مختصة، علما بأنه في حال وجود شكّ يتم إخضاع المعني بالأمر لفحص مضاد، وبالتالي وجب القطع مع سياسة الكيل بمكيالين، فضلا عن أولوية الحفاظ على المال العام وليس تبذيره كما وقع بالنسبة لمكتبها الذي عملت على تجديده بميزانية "ضخمة" ، أخذا بعين الاعتبار أنه لم يكن يعاني خصاصا، خلافا للمرافق الصحية التي تعاني الأمرّين والتي هي في حاجة إلى صرف تلك الأموال على بنياتها وعتادها، وما ملحقة "لالة عائشة" والمعهد العالي للمهن التمريضية سوى مثال   من بين أمثلة عدة، دون الوقوف عند مشكل التعويضات الخاصة بأساتذة المعهد، وضعف التجهيزات المستعملة في منظومة التدريس، والخصاص في قسم الأطفال حديثي الولادة، وعدد الأطباء المتخصصين في التخدير والإنعاش، ومشكل قاعات الجراحة وعدد العمليات التي تجرى نظرا لانتظار الأطباء لدورهم مع ما يعنييه ذلك من تأخر يضر بصحة المواطنين، وغيرها من الملاحظات العديدة، التي لايسعنا المجال لسردها كاملة، والتي يجب على ممثلة وزير الصحة أن تتمعن فيها بكثير من التأني بعيدة عن لغة الانفعالات وردود الفعل غير المحسوبة، وأن تكون واقعة الدعوى القضائية مناسبة لإعادة ترتيب الأوراق بنوع من الحكمة، بما يضمن قيام كل طرف بواجبه المهني في خدمة المواطنين، وتغليب المصلحة العامة على أية نظرة ضيقة.