أرغم خامنئي، كما أرغم من قبله الخميني، على تجرع كأس سم في ملف الملالي النووي، حيث أجبره على التخلي عن ممانعته غليان الشعب الإيراني الرازح تحت أعباء العوز والفقر والحاجة وقلة الأجر والبطالة وارتفاع الأسعار والتضخم والإعدامات اليومية والقمع والقسر والإرهاب والتطرف.. خامنئي الذي كان إلى أيام قليلة يضع خطوطا حمراء على فقرات مسودة الاتفاق النهائي، تخلى عنها خلال ساعات، وأعطى موافقته على توقيع الاتفاق مرغما، لكنه بقي يناور حتى اللحظات الأخيرة، ليترك الطريق مفتوحا على التنصل من هذا الاتفاق الذي التف على 6 قرارات صادرة عن مجلس الأمن، ولم يوقع أو يصادق على الاتفاق حتى هذه اللحظة.. ومثل هذا الاتفاق يترك السبيل أمام خامنئي للمراوغة، ولا يقطع الطريق على نظامه للحصول على القنبلة النووية .
ومع ذلك يمكننا القول بثقة ويقين أن الخاسر هم الملالي، والرابح هو الشعب الإيراني ما لم يجير الملالي مكتسبات الاتفاق لصالح حروبهم في المنطقة.. وهو ما سيحصل إن تم الاتفاق على أكمل وجه.. فهناك 65 يوما لمراقبة سلوك إيران الملالي ومدى التزامها ببنود الاتفاق وتنفيذها دون مراوغة.. وهناك 90 يوما حتى يتم تفعيل تلك البنود، وهو وقت كاف لحدوث متغيرات وارتدادات محتملة.. فالنظام الإيراني بلا كلمة ولا مصداقية، وليس هناك من يثق به.
والمكسب الذي حصل عليه الشعب الإيراني، حتى في حال عدم استفادته من المليارات التي ستطلق، هو انهيار آخر ما تبقى من خطوط هيبة المرشد الأعلى حين تخلى عن خطوطه الحمر التي سبق وأن قلنا إنها ليست أكثر من خطاب فارغ للاستهلاك المحلي ولإرضاء المتشددين الذين يحتمي بهم المرشد في مواجهة معارضيه.. وانهيار هيبة المرشد سيجعل الشعب الإيراني والمقاومة الإيرانية أكثر جرأة في مواجهة أطراف النظام وأقطابه، ما يجعل مسالة إسقاطه، والسير في طريق التغيير، مسالة حتمية، وأقرب مما كان متوقعا.. وبالنسبة للمقاومة الإيرانية، فقد وصفت السيدة مريم رجوي رئيسة الجمهورية المنتخبة من قبل المقاومة الإيرانية الاتفاق النووي الذي حصل بين نظام الملالي وبين دول 5+1، قائلة إنه رغم جميع النواقص الموجودة فيه والتنازلات غير المبررة التي قدمت لنظام الملالي، بأنه تراجع مفروض وخرق للخطوط الحمر المعلنة من قبل خامنئي الذي ظل يؤكد عليها طيلة 12 عاما مضت، ومنها خلال الأسابيع الأخيرة مرارا وتكرارا.
وأكدت السيدة رجوي بأن الالتفاف على 6 قرارات صادرة عن مجلس الأمن واتفاق دون توقيع لا يحمل الالتزامات الخاصة بمعاهدة دولية رسمية، سوف لن يقطع السبيل بالتأكيد على الملالي لمراوغاتهم وحصولهم على القنبلة الذرية. رغم ذلك فإن هذا القدر من التراجع، سوف يقضي على هيمنة خامنئي كما كانت المقاومة الإيرانية أكدته من قبل، ويضعف الفاشية الدينية ويحدث زلزالا فيها.
إن هذا التراجع الذي سماه المعنيون في النظام بكأس السم النووي، سيؤدى لا محالة إلى تفاقم الصراع على السلطة في قمة النظام وتغيير ميزان القوى الداخلية على حساب الولي الفقيه المنهك. إن الصراع على السلطة في قمة النظام سوف يستفحل في جميع مستوياته. ومن هذا المنطلق يمكن وصف الاتفاق الحاصل من ناحية المضمون والصياغة بأنه اتفاق "خسارة – خسارة".
واستذكرت السيدة رجوي حقيقة، هي أن المقاومة الإيرانية كانت الجهة الأولى التي كشفت النقاب عن مشاريع النظام ومواقعه وأساليبه للإخفاء طيلة ثلاثة عقود مؤكدة: أن رضوخ خامنئي ونظامه حتى لهذا الاتفاق أيضا، يأتي بسبب الأوضاع المحتقنة للمجتمع الإيراني وللآثار الاستنزافية للعقوبات، فضلا عن مأزق سياسة النظام في المنطقة، وكذلك قلقه حيال تشديد الشروط للاتفاق من قبل الكونغرس الأمريكي.
وبالنظر إلى الظروف الهشة للغاية والمتأزمة لنظام الملالي، شددت السيدة رجوي: أن دول 5+1 لو أبدت صرامة لما كان أمام النظام الإيراني سبيل سوى التراجع الكامل والتخلي الدائم عن محاولاته ومسعاه من أجل حيازة القنبلة النووية، وعلى وجه التحديد التخلي عن أية عملية للتخصيب والتخلي الكامل عن مشاريعه لصنع القنبلة النووية. والآن يجب على هذه الدول الإلحاح على عدم تدخل هذا النظام في شؤون دول المنطقة وقطع دابره في أرجاء الشرق الأوسط وإدخال هذه الضرورة في أي اتفاق يبرم كأحد المبادئ الأساسية. ومن غير ذلك فإن أية دولة تقع في هذه المنطقة المنكوبة بالحروب والفوضى، من حقها أن تطالب بجميع التنازلات التي قدمت للملالي، الأمر الذي سوف لن يؤدي إلّا إلى إطلاق سباق تسليحي نووي في هذا الجزء من العالم.
النقطة الهامة الأخرى هي أن الأرصدة النقدية التي سوف تتدفق إلى جيوب النظام يجب أن تخضع لمراقبة مشددة من قبل منظمة الأمم المتحدة كي تنفق لسد الحاجات الملحة لدى أبناء الشعب الإيراني، خاصة لتسديد الرواتب القليلة المتأخرة للعمال والمعلمين والممرضين والممرضات وتوفير المواد الغذائية والأدوية لقاطبة أبناء الشعب الإيراني، ومن غيره سوف ينفق خامنئي هذه الأموال، كما كان يفعله سابقا ضمن إطار سياسة تصدير الإرهاب والتطرف الديني إلى سوريا واليمن ولبنان، وقبل ذلك سيملأ جيوب جلاوزة قوات الحرس أكثر من ذي قبل.
إنه من الحق المؤكد للشعب الإيراني أن يعرف ما هي حصته من الاتفاق الذي كان يقول رئيس جمهورية النظام بأن المياه والخبز والبيئة أيضا أصبحت مرتبطة ومرهونة بالحصول عليه؟ ويا ترى أليس الاتفاق الذي يتجاهل حقوق الإنسان للشعب الإيراني ولا يؤكد وينص عليها، سيكون مشجعًا لممارسة القمع والإعدامات بلا هوادة من قبل هذا النظام وساحقا لحقوق الشعب الإيراني وانتهاكا للبيان العالمي لحقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة.
وعلى وفق ذلك خاطبت السيدة رجوي أبناء الشعب الإيراني، باعتبارهم الضحايا الرئيسيين لبرنامج النووي المشؤوم لنظام ولاية الفقيه الذي بلغت تكاليفه مئات المليارات من الدولارات من أجل ضمان بقاء هذا النظام في سدة الحكم فقط، بينما يعيش الغالبية العظمى من الشعب تحت عتبة الفقر، مؤكدة لهم: لقد حان وقت محاسبة النظام اللاإيراني، وقد حان الوقت للانتفاضة من أجل إسقاط الحكم اللاشرعي للملالي وإقامة إيران ديمقراطية حرة غير نووية.
ولن ننتظر طويلا نحن المتابعين لنرى ونلمس لمس اليد تفجرات صراع العقارب بين قطبي -روحاني رفسنجاني- الذين يطلقون على أنفسهم توصيف الإصلاحيين وقطب –خامنئي- الذين يسمون أنفسهم خط الإمام أو المهمومون.. فجماعة رفسنجاني يعتبرون أنفسهم هم الذين أنجزوا الاتفاق، وأنهم بهذا لهم دالة على النظام والشعب ويستحقون الجائزة، وأن على الشعب الإيراني إن يعيد انتخابهم.. كما أن ثمة ملاحظة مستقبلية هي أن وفاة خامنئي المتوقعة قريبا ربما أفسحت المجال لاختيار أحد الإصلاحيين لإشغال مركزه.. وربما كان هذا التخوف من المهمومين هو السر، فضلا على الغليان الشعبي الأساس الأول لتخلي خامنئي عن خطوطه الحمر لاحتواء الاتفاق وسحب البساط من تحت أقدام الإصلاحيين وإعدام ضحكة وزير خارجية روحاني، الذي ظهر بعد التوافق ضاحكا بقوة، وهو يلوح بورقة رمزية دلالة على الإنجاز الذي يجب أن يحمل ختم الإصلاحيين .