تلقيت دعوة كريمة من حزب القوات الشعبية لمتابعة ندوة "الإجهاض قضية مجتمع"، التي نظمها فريقه البرلماني، بمقر البرلمان ثاني يوم من هذا الشهر، تعذر علي حضورها، لكنها حفزتني على نزول هذا المعترك، حتى لا يفوتني ثواب المساهمة في النقاش العمومي في المحطات المفصلية للبلاد، فقد أجلت مواصلة الحديث في سلسلة حلقات معادلة الحقل الديني بين سؤال المرجعية ومفاصل التدبير الرسمي المنفلت، لندلي بدلونا في موضوع "الإيقاف الطوعي للحمل"، في إطار الذب عن المذهب المالكي وبالمركز الشرعي القانوني لصاحب الأمر فيه.
بداية لابد من التعبير عن مشاعر الارتياح للتدخل المبكر لصاحب الأمر، لأنه وأد بهذا التدخل -وروح القدس معه- حسابات النفخ في رماد الفتنة، وقد صعقتنا شحنة الخرجة الأولى للأستاذين أحمد الريسوني ومصطفى بنحمزة القريبين من السيد رئيس الحكومة، خصوصا وقد تمت في أجواء الحركات التسخينية وربما بهاجس المرور إلى السرعة القصوى في توظيف الدين في السياسة، للاستحقاقات المقبلة، حيث غيبا العلم الخالص لوجه الله، واستحضرا إيديولوجية الوصاية الأصولية على ضمير الأمة. لكن بالرغم من هذا الانطباع، لا أستبعد نفعهما للبلاد، إذا صدرا في غير خاصة نفسيهما من باب الفقه بمحددات الثوابت المذهبية والتراكم الحضاري للمغرب ككل لا يتجزأ، وبقدر من التواضع الصوفي. ولن يكونا بهذا السمت المأمول بحمد الله، إلا في زمرة المصلحين الناصحين.
ويبقى موقف الأستاذ سعد الدين العثماني من خلال مقاله المنشور في "المساء" ثاني مارس 2015، تحت عنوان: "الإجهاض واستعجالية تعديل القانون الجنائي المغربي"، في غاية الأهمية وقد استرعى انتباه المتتبعين، فهو موقف واضح من خلال العنوان، وبناء حيثياته واضحة من خلال بنية المقال. فقط سأستدرك عليه ترديده لتكييف الأبحاث المعاصرة لرؤية المذهب المذهب المالكي من الإجهاض. وقد ألمح إلى هذا الموقف من الصف الديمقراطي الأستاذ سعيد لكحل في مقاله ب "الأحداث المغربية" 24/3/2015، في معرض رده على الأستاذ أحمد الريسوني، تحت عنوان: "أنا إجهاضي، وهذه أدلتي"، بقوله: "وجواز قول الإسقاط قبل نفخ الروح، هو قول الحنفية وبعض الشافعية وبعض الحنابلة". في حين عمد الأستاذ عبد الصمد الديالمي، إلى التصريح في حواره بنفس هذا المنبر 30/3/ 2015، في معرض رده على الأستاذ مصطفى بنحمزة، بقوله: "اختزال موقف الإسلام من الإجهاض، في المذهب المالكي لا يستقيم علميا".
لقد استند الأستاذ العثماني في ترديده أن "فقهاء المالكية هم أكثر الفقهاء تشددا في هذا المجال"، إلى ابن جزي، في"القوانين الفقهية": "وإذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له. وأشد من ذلك إذا تخلق، وأشد من ذلك إذا نفخ فيه الروح، فإنه قتل نفس إجماعا". كما أشار في تشدد فقهاء المالكية أيضا، إلى"الشيخ أحمد عليش وغيره".
يبدو لي أن جانبا كبيرا من النقاش في هذا الموضوع وقع فيه اشتباه، يستحسن ضبط مداخل النقاش فيه، ليس فقط، في اتجاه أكبر قدر من التوافق على مستوى التداول العام والرسمي، من منطلق التأطير والبناء القانوني المطابق لحاجيات المجتمع. وهو توافق يستحقه المغرب بفرادة مرجعيته الناظمة لطمأنينته الروحية وعيشه المشترك، بل أيضا لتصحيح النظر إلى المنتوج الفقهي المالكي في صيرورته المعانقة لأفق المقاصد، حيث "لا يعتبر الشرع من المقاصد إلا ما تعلق به غرض صحيح من جلب مصلحة أو درء مفسدة". والنظر في تقرير ذلك يرجع إلى الإمام من منطلق تغيير الأحكام بتغير الأحوال. فالموضوع عندنا لا يمكن الارتهان فيه لهذا الرأي أو ذاك من فقهاء المذهب، بدون إعمال منهجية "السبر والتقسيم"، بل يجب أن تتم معالجته -إلى جانب استحضار السياق- في إطار القواعد الفقهية التي أنتجها تطور مذهب البلاد. أما ما نراه من ممانعة في هذا الباب، صريحة أو مغلفة، من هذا الطرف أو ذاك، فهو لا يخرج عن دوافع التشغيب والوصاية، بهدف المساس بصلاحيات أمير المؤمنين باعتبار أن الأمور العامة في الدين يرجع النظر فيها إليه، أعز الله أمره.
وبالرغم من هذه الكليات الناظمة للموضوع، والحاسمة فيه أيضا، فإنه يستحسن في إطار البيان -لا في إطار تقرير الأحكام- الإحاطة بنسق وسياق التفاصيل الفقهية التي أثارت هذا الالتباس. لذلك فموضوع الإجهاض هو جديد، لم يعرفه السلف بالمعني المطروح حاليا. فالأحكام المقررة فيه الآن، هي مجتزأة من بابين فقهيين، وفي غياب استحضار السياق. يتعلق الأمر ب "دية الجنين"، كما يتعلق ب "العزل" في باب "حقوق الزوجة"، كما هو الحال لاجتزاء استشهاد الأستاذ العثماني بابن جزي خارج تأطير التبويب الفقهي، في مساق ترديده لما هو مشاع في هذا الباب بدون تمحيص.
وليسمح لي الأستاذ العثماني، وقد غذى عرضا في حقل التلقي، التباسات لاحقة في حق المذهب، ببسط ما انقدح في ذهني في هذا الجانب، وأنا أحسن الظن به، وإن كنت أرى من قبل أن ابتسامته تخفي شفرة حلاقة. لكن صدى زمجرات عنف الوعيد المتزايدة في أذني اليوم، تجعلني أرى في ابتسامة سعد الدين وسيلة ترشيد في قبيلته الحزبية على الأقل. ويشمل هذا البيان ثلاثة محاور:
1- على نهج علمائنا في جعل التبويب والترتيب إطارا للإمساك ببوصلة المعنى، سنحيل الاستشهاد بابن جزي على معمار تبويبه الفقهي. فهو يندرج في "مسألة العزل"، في "باب حقوق الزوجة"، من "كتاب النكاح". ويستحسن إيراد ما سبق هذا الاستشهاد في هذه المسألة: "لا يجوز العزل عن الحرة إلا بإذنها، ولا من الزوجة الأمة إلا بإذن سيدها لحقه في النسل. ويجوز في السرية بغير إذنها. وأجازه الشافعي مطلقا.ويلحق الولد بالزوج بعد العزل".
ولتوضيح الرؤية يجب حمل كل ما جاء في مسألة "العزل" على كتابين: الأول "كتاب العتق"، في "باب أمهات الأولاد"، حيث نقف في، "الفصل الأول: فيما تصير به أم ولد"، على ما يلي: "فمن وطأ أمته فحملت، صارت له أم ولد، سواء وضعته كاملا أو مضغة أو علقة أو دما إذا علم أنه حمل. وقال أشهب: لا تكون أم ولد بالدم المجتمع. وقال الشافعي: لا تكون أم ولد حتى يتم شيء من خلقته؛ عين أو ظفر أو شبه ذلك". إذن فنظرة المذهب المالكي "فيما تصير به أم ولد"، إنما هي لصالح المرأة. فهذا الوضع القانوني بالرغم من أنه يعطيها "أحكام المملوكة"، في حياة سيدها، أما بعد الوفاة، فيضيف ابن جزي: "وأما إذا مات السيد، عتقت أم ولده من رأس ماله، وإن لم يترك مالا غيرها، ولحقت بالأحرار في الميراث والحد والجناية". وبهذا يظهر أن المذهب المالكي قد وسع من هوامش تحرر الإماء، في حين ضيق المذهب الشافعي من ذلك.
أما الكتاب الثاني الذي يستوجب الإحالة عليه، فهو "كتاب الدماء والحدود"، في "باب القتل" في "فصل الدية" حيث نقف على ما يلي: "دية الجنين عبد أو وليدة، سواء كان ذكرا أو أنثى، وسواء تم خلقه أم لم يتم، إذا خرج من بطن أمه ميتا. ولا يقتل قاتل الجنين في العمد، لأن حياته غير معلومة. وقال الشافعي: لا دية فيه حتى يتم خلقه، فإن ماتت من الضرب، تم سقط الجنين ميتا فلا شيء فيه، خلافا لأشهب. وإن ماتت الأم ولم ينفصل فلا شيء فيه". فالمذهب المالكي يقر الدية بمجرد أقل ما يثبت به الحمل إذا تعرضت للاعتداء، في حين لا يقر المذهب الشافعي هذا الحق إلا بعد نفخ الروح في الجنين. فأي المذهبين أقرب إلى منظومة الحق في الحرية وجبر الضرر المادي؟ إنه بالتأكيد المذهب المالكي.
2- لم يطرح الإجهاض في الفقه كموضوع مستقل لذاته، بل طرح من باب الإضافة في العزل، وفي أنواع الخطأ المندرجة فيه دية الجنين، "وذلك لأن سقوط الجنين عن الضرب ليس هو عمدا محضا، وإنما هو عمد في أمه خطأ فيه"، حسب ابن رشد الحفيد في "بداية المجتهد". والمستند في هذا، "حديث أبي هريرة وغيره: أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها، فقضى فيه رسول الله (ص) بغرة عبد أو وليدة". وقد حدد ابن رشد أنواع النظر في الموضوع، من بينها: "واختلفوا من هذا الباب في الخلقة التي توجب الغرة؛ فقال مالك: كل ما طرحته من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه الغرة. وقال الشافعي: لا شيء فيه حتى تستبين الخلقة، والأجود أن يعتبر نفخ الروح فيه. أعني أن تكون تجب فيه الغرة، إذا علم أن الحياة كانت وجدت فيه". فمدخل النقاش في الموضوع هو الاعتداء على المرأة المفضي إلى الإجهاض. أما النقاش اليوم، فمدخله مختلف، يتعلق بالإيقاف الطوعي والاختياري للحمل لضرورات الاغتصاب وصحة الأم وتشوهات الجنين، ينبغي تقرير وجه المصلحة فيه. وعليه فالموضوع موضوع اجتهاد بامتياز.
3- أما إشارة الأستاذ العثماني إلى الشيخ محمد أحمد عليش، وهو من المتأخرين ت: 1299ه، فقد كان من المستحسن بسط فتواه، فهي أقرب إلى إشكالات عصرنا المتجاوز والقائم منها؛ فهي مهمة في سؤالها وجوابها، وبحصاد موقف علماء المذهب بمن فيهم ابن جزي، لكنها بالرغم من نحتها لاستقلالية النظر في موضوع الإجهاض، فإنها تبقى موسومة بالقراءة المبتسرة للسياق، وهي ذات القراءة التي تشرط تعاطي الأبحاث المعاصرة في هذا الجانب. وهذا ما سنستأنف القول فيه بحمد الله، من خلال عنوان: "الإيقاف الطوعي للحمل، بين التأويل الفقهي والترسيم القانوني".