في كل فصل من كل سنة تتحول مدينة جنيف إلى كعبة الحقوقيين في العالم. ففي مارس ويونيو وشتنبر من كل عام يعقد مجلس حقوق الإنسان الأممي دورته التي تكون عادة دورة جلد وسلخ الدول والحكومات وتقييم سياساتها العمومية في احترام حقوق الإنسان والتقيد بالمعاهدات الدولية ذات الصلة.
المفارقة تكمن في أنه في الوقت الذي تحج فيه الوفود الرسمية والجمعوية نحو جنيف من كل بقاع العالم للمشاركة في هذا الجلد، نجد أن أفظع الانتهاكات المركبة في حق الإنسان ترتكب كل ليلة في وسط جنيف، دون أن تجرؤ منظمة غير حكومية أو حكومة معينة لتسجيل احتجاج أو المطالبة بمحاسبة الحكومة السويسرية على الفظاعات التي ترتكب فوق أراضيها كل يوم. وأين؟ إليكم الجواب:
فعلى بعد بضعة أمتار من مقر مجلس حقوق الإنسان بجنيف (يا حسرتاه) وبالضبط في حي "لي باكي" تزدهر أبشع تجارة للبشر تحت حماية البوليس السويسري، وتحت أنظار السلطات العمومية السويسرية. فتيات من مختلف الأعمار ومن مختلف الجنسيات يسخرن من قبل شبكة منظمة في القوادة والدعارة يؤثثن أزقة وشوارع حي "لي باكي" (قرب محط القطار كورنافان)، كل واحدة بثمن، وكل واحدة مخصصة لنوع معين من الاتجار من طرف العصابات المنظمة التي يتحكم في معظمها أشخاص ينحدرون من دول شرق أوروبا. والويل ثم الويل لبائعة هوى أن تتخذ المبادرة من تلقاء نفسها لـ "تخطف بلاصة" مع زبون ما بشكل سري وبدون إخطار السمسار الذي يقتطع عمولة عن كل خدمة جنسية "باعتها" الفتاة. وهذا هو بيت القصيد.
فالتعريف القانوني لجريمة الاتجار في البشر يتلخص في: "استغلال أشخاص عن طريق الاستعمال بهدف الحصول على أرباح"، علما أن هناك استغلال -في حالة جنيف- للمئات من الفتيات بشكل تجاري رخيص في الدعارة، حسب تعريف معاهدة الأمم المتحدة حول الجريمة المنظمة وحسب بروتوكول "باليرمو". وحينما تنتصب بعض الأصوات باحتشام ضد سويسرا لاستنكار صمت السلطات على هذه الانتهاكات، تجيب سويسرا بتحايل بأنهن (أي بائعات الهوى) "أحرار في أجسادهن". وهذا عذر أقبح من الزلة ،لأن بائعة الهوى الحرة في جسدها تقوم بذلك برضاها ودون عنف أو إخضاعها لابتزاز المافيا أو شبكات الجريمة المنظمة، كما أنها تتقاضى "أتعابها" لوحدها دون أن يتقاسم معها "مدخولها" سمسار أو قواد أو مافيوزي. وبالتالي فالوضع الذي تعرفه جنيف (والذي عاشت تفاصيله "الوطن الآن" و"أنفاس بريس" ليلة كاملة وسط هذا العالم السفلي) يدخل في باب جريمة الاتجار بالبشر المحرمة دوليا. لكن للأسف تسكت المنظمات الغربية على فضح ذلك طالما أنها تحصل على الدعم المالي من الحكومات الأوربية ومن المانحين المرتبطين بشبكة اللوبيات والمصالح، أما المنظمات غير الحكومية المنتمية للعالم الثالث فتخاف من الحرمان من "الفيزا" والحرمان من أن لا تحصل على صفة ملاحظ أو مراقب بمجلس حقوق الإنسان، فيحدث التواطؤ وتخرس الألسنة لفضح سويسرا وما يجري في عاصمتها "الديبلوماسية".
الاتجار بالبشر في جنيف مقسم إلى ثلاثة أنواع:
هناك الفتيات اليافعات (19- 23 سنة) اللواتي يسخرن في كاباريهات حي "لي باكي" في "الستريبتيز" والتعري (دون عملية جنسية) مقابل 100 فرنك سويسري (حوالي ألف درهم مغربي) يدفعها الزبون لمدة 15 دقيقة من "الاستمتاع" تقتطع منها عمولة لفائدة زعيم الشبكة على أساس أن الفتاة مطالبة بأن تظهر"حنة يديه" كل ليلة لجلب مدخول محدد السقف تحت طائلة التنكيل بها.
وبعد أن "تعصر" الفتاة لمدة معينة وتفقد بريقها في الستريبتيز تحول إلى "الفيترينا" (وهي محلات بالزجاج تعرض فيها الفتيات عاريات لاستقطاب "فيكتيم" من أجل عملية جنسية مقابل نفس الثمن، أي 100 فرنك سويسري ، لكن لمدة أطول (20 دقيقة).
ولما يزول توهج الفتاة بعد مدة من الاستغلال في "الفيترينا" تحال على الزنقة "الطروطوار" لاصطياد الزبائن مقابل 100 فرنك سويسري لمدة 20 دقيقة، لكن مع خدمة إضافية تتجلى في أن الشبكة الإجرامية توفر لبائعة الهوى الغرفة مقابل عمولة عن كل زبون.
المثير في الأمر أن مسرح الجريمة بجنيف ،حي "لي باكي"، لا تتعدى مساحته ثلاث هكتارات تقريبا (للمقارنة حديقة مردوخ بالبيضاء مساحتها 4 هكتارات)، لكن رغم صغر المساحة فإن الاتجار في البشر بجنيف يدر الملايير على العصابات المنظمة هناك.
فالفتيات يشتغلن بمعدل ثمان ساعات في اليوم، وكل واحدة تجلب في المعدل حوالي 2000 فرنك سويسري يوميا (أي ما يعادل 20000 درهم). وإذا علمنا أن هناك 17 كرسي لـ 17 فتاة في "الفيترينا"، من قبيل تلك التي توجد في زنقة "بيلليغرينو روسي" بجوار كاباري "الصقر الأسود"، فمعنى ذلك أن كل مناوبة (ثماني ساعات) تضخ في خزينة الشبكة الإجرامية 340000 فرنك سويسري، أي في اليوم الواحد 1020000 فرنك (حوالي 10200000 درهم).
واسترسالا في "لحساب"، نجد أن "فيترينة" واحدة من بائعات الهوى تدر 3723000000 درهم سنويا (ثلاثة مائة ملايير وسبعمائة وثلاث وعشرون مليون سنتيم،) أي ما يفوق ميزانية الدار البيضاء التي لا تتجاوز 340 مليار سنتيم. وإذا استحضرنا عدد الفيترينات والكاباريهات واستوديوهات "الخدمة الجنسية" المنتشرة في وسط جنيف آنذاك سنعي الحجم الهائل للملايير التي تروج بسبب استغلال الفتيات (من أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية بالأساس) في إطار جرائم الاتجار بالبشر. علما أننا لم نحتسب الموارد التي تضخها تجارة الشواذ والمتحولون جنسيا التي تعج بهم جنيف والذين يخضعون بدورهم لشبكات منظمة، أي أن ما تجنيه هذه الشبكات في جنيف قد يتجاوز 8000 مليار سنتيم سنويا. وهذه الأموال قد يذهب جزء منها للسياسيين لتمويل حملاتهم، وجزء قد يذهب للأمن لضمان تواطئه، والجزء الآخر للمنظمات غير الحكومية -عبر حسابات تمويهية للمانحين- لإخراسها أو لتوجيه كشافات ضوئها نحو دول أخرى بالعالم الثالث.
الخطير في الأمر أن كل هذه الفظاعات التي ترتكب على مقربة من مجلس حقوق الإنسان بجنيف، بل وعلى مرمى قصر ويلسون (مقر ملحقة الأمانة العامة للمجلس الأممي)، لا تثير قلق المجتمع الدولي ولا تسائل الضمير الأممي ولا تحرك وجدان العقل الحقوقي العالمي، لكن إذا "نعس" جندي مغربي في قوات حفظ السلام مع بائعة الهوى بالكونغو أو الكوت ديفوار وبرضاها وموافقتها التامة وبمقابل مادي وبدون عنف أو ضرب، تقوم القيامة في جنيف وفي مجلس الأمن الدولي ضد الجندي المغربي وضد المغرب. (يا للمفارقة ويا للنفاق).
جنيف التي تسوق على أنها مهد الديمقراطية المباشرة، ليست في نهاية المطاف سوى "عاصمة الاتجار في البشر"، و"عاصمة تبييض الأموال"، وعاصمة احتضان "الأموال القذرة المتأتية من المخدرات والنهب والسرقات".