الأحد 28 إبريل 2024
سياسة

المغرب وفرنسا.. تاريخ حافل من الضرب تحت الحزام...

المغرب وفرنسا.. تاريخ حافل من الضرب تحت الحزام...

بخلاف الاعتقاد السائد بخصوص العلاقات المغربية الفرنسية فالتوتر لا يتصاعد فقط حين يعتلي اليسار هنا كسدة الحكم، بمعنى أن المنحنى البياني لا يرتهن بمنسوب الشحن الإيديولوجي بين طبيعة نظام البلدين. بل إن التوتر يظل ملازما لهذه العلاقات، سواء حل هناك اليسار أو اليمين بفرنسا بسبب ما يمكن اعتباره عقدة تاريخية بين بلدين: واحد مستعمِر لا يزال حكامه مسكونين بمركب الهيمنة والتبعية رغم انتهاء زمن الاستعمار القديم، وثان يسعى إلى تأسيس خطوه الخاص بما يضبط مخاضاته الداخلية، وتأثيرات نخب اليمين واليسار داخله، دون القدرة على حسم تردده إزاء نزوع هيمنة الآخر.

فقد ظل التجاذب المتوتر مهيمنا على العلاقات الثنائية طيلة العقد الأول من الاستقلال إلى أن جاءت قضية اختطاف المهدي بنبركة عام 1965 لتبرز بالملموس هشاشة هذه العلاقات.

ونتذكر بهذا الخصوص كيف أن الدولتين المغربية والفرنسية لم تتوفقا في إيجاد مخرج للأزمة المستعرة بينهما. فرنسا دوغول ومغرب الحسن الثاني وجدا أنفسهما في ورطة زاد من غموضها عجزهما معا عن إيجاد تدبير مشترك. بل إن الحادث قد حول الأمر إلى صراع شخصي بين قائدي البلدين، وليس فقط صراعا سياسيا. وقد انعكس كل ذلك على مستويات التعاون الاقتصادي بين البلدين دام تجميده سنتين بالضبط (من 1967 إلى 1969). وظلت العلاقات فاترة عقب وفاة دوغول، وطيلة الحقبة القصيرة للرئيس جورج بومبيدو، لا فقط لأن الأمر يتعلق بفترة انتقالية عقبت أحداث 1968 وتنحي الزعيم التاريخي، ولكن لأن بوصلة القرار المركزي لم تكن تستقر على موقف حاسم.

في سنة 1974، أفرزت الرئاسيات الفرنسية صعود يميني آخر، فاليري جيسكار ديستان، الذي تزامن مع اندلاع مشكل الصحراء. هذا التغير في أعلى هرم السلطة بفرنسا لم يخفف من آثار التوتر والبرود، في الوقت الذي كان المغرب يبحث عن مؤازر دولي من عيار فرنسا التي كانت ترسي توازناتها المصلحية مخافة أن تفقد جزائر بومدين. ولذلك وجد المغرب نفسه مدججا بالحق الشرعي في صحرائه دون سند فرنسي واضح.

وتعمقت المشاكل أكثر مع صعود اليسار إلى قصر الإليزي بدءا من سنة 1981، ففي حين صفق اليساريون المغاربة لصعود فرانسوا ميتران نكاية في نظام خصمهم التاريخي الحسن الثاني، وتعبيرا عن الطموح في أن هذا الصعود قد يرفع درجات الضغط على المغرب من أجل مكتبسات ديمقراطية حقيقية، ضيق الخناق على النظام المغربي. وتماما كما كان منتظرا فقد انبرت دانيال (زوجة الرئيس ميتران) إلى اتخاذ موقف معاد وصريح للمغرب بخصوص ملف الصحراء، وإلى الطرح الشخصي لملف المعتقلين السياسيين المغاربة آنذاك. وبموازاة مع ذلك، صب جيل بيرو الزيت على النار بإصدار كتاب "صديقنا الملك"، سنة واحدة بعد التتويج الرئاسي الثاني لميتران. الأمر الذي حوله الحسن الثاني إلى مسألة شخصية ووطنيه جعلت المغرب الرسمي كما لو كان في حرب حقيقية مع فرنسا ميتران. ولذلك لم يرتح الحسن الثاني إلا مع وصول رونالد ريغان إلى البيت الأبيض حيث سعى الوافد الأمريكي الجديد، خلال فترة ولايته (1981 – 1989)، إلى تطوير العلاقات بين البلدين، لا حبا في عيون المغاربة، ولكن في إقامة نوع من التوازن الجيو ستراتيجي في الحوض المتوسطي خاصة مع بروز موجة يسارية إسبانية معادية للقواعد العسكرية الأمريكية بإسبانيا، وهو ما ضخ الكثير من الأنفاس في رئة المغرب الخارجية.

ولم تهدأ أنفاس الملك الراحل تماما إلا حين انهزم اليسار الفرنسي بصعود جاك شيراك (1995)، وبعودة اليمين إلى الحكم. ومع ذلك فهذا الهدوء لم يجن منه المغاربة سوى تعميق ما هو شخصي (بين شيراك والحسن الثاني) في العلاقات البينية. أما على صعيد المكتسبات الموضوعية بالنسبة للمغرب فقد ظل الأمر في المستوى العادي، مع فارق بسيط يتجلى في انخفاض مستوى التوتر العلني بين البلدين.

في سنة 2007 يواصل اليمين الفرنسي إقامته في قصر الإليزيه بعد الانتخابات التي بوأت رئاسة نيكولا ساركوزي الذي اختار، في يوليوز من نفس السنة، زيارة الجزائر ضمن أول سفر له إلى بلدان شمال إفريقيا في حين لم يزر المغرب إلا في أكتوبر،  ليعود مرة ثانية إلى الجزائر في دجنبر التالي. وهو الأمر الذي أثار حفيظة المغاربة الذين يرون أن التراث الديغولي مستمر في لعبة الالتباس، وفي تبديد فكرة أن ما يعتبر المشترك اليميني بين المغرب وفرنسا هو مجرد وهم لأن ما يضبط السياسة هي المصالح، وليست الإيديولوجيا.

يستمر جدل اليسار واليمين هناك دون أن تحدث خلخلة للتوتر في ما صار من حكم الثابت في العلاقات بين البلدين.

فبعد حكم ساركوزي على امتداد ولايتين (من 2007 إلى 2012)، يلج الاشتراكي فرانسوا هولاند قصر الإليزي بعد أن سرى نوع من الانطباع القدري بأن التغيير في سدة الحكم الفرنسي لا يعني تغيرا أوتوماتيكيا في مستوى العلاقات، مع فارق جوهري يفيد أن فترة هولاند تميزت بتبخر خرافة دفاع وزراء حكومة هولاند ذوو الأصل المغربي الذين لم يلعبوا أي دور في تجسير العلاقة بين البلدين (عكس ما كانت تقوم به رشيدة داتي في حكومة ساركوزي)، في حين تمكن الفرنسيون ذوو الأصل الجزائري المحيطين ببلاط فرانسوا هولاند من توجيه بوصلة هذا الأخير نحو الجزائر نكاية من جديد في المغرب.. بل وشهدت العلاقة بين باريس والرباط، في عهد هولاند، أسوء المنحدرات في  العلاقات الثنائية، سواء على مستوى تعقد الملفات الكبرى، أو على المستوى الذي أصبح إهانات شخصية تجاه المسؤولين السامين المغاربة، خاصة واقعة تنقل رجال الأمن الفرنسي، في فبراير 2014، إلى مقر السفارة المغربية بباريس بدون احترام الأعراف الديبلوماسية والمساطر المتبعة في مثل هذه الحالات لإبلاغ استدعاء إلى عبد اللطيف حموشي (مدير مديرية مراقبة التراب الوطني) للتحقيق معه بدعوى تورطه المزعوم في "تعذيب" أشخاص مغاربة، وواقعة "بهدلة" وزير الخارجية والتعاون صلاح الدين مزوار الذي أخضعته سلطات مطار شارل دوغول إلى التفتيش المهين في مارس من نفس السنة، رغم أنه يمثل المغرب. الأمر الذي أجج سعير التوتر وأفضى في ما بعد إلى وقف التعاون القضائي بين البلدين.

(تفاصيل أخرى في هذا الملف تجدونها في العدد الأخير لغلاف "الوطن الآن" تحت عنوان "فرنسا والمغرب.. تاريخ حافل من الضرب تحت الحزام")

une-coul-04-03