عندما تغلق دفتي الكتاب، تشعر وكأن الهاجس الغالب، في التعامل مع وقائع السياسة الوطنية، هو أن تكون لدينا حكومة قوية بالدستور ودستور قوي بالحكومة.
هذا الانشغال العميق، الذي يوازي في ذهن عبد الله العروي التسيد العملي للحياة البرلمانية، يتخذ أشكالا متعددة.
في الشكل المباشر، يكتب يوم الجمعة 3 شتنبر "يسأل البعض: ما هو التغيير المطلوب؟ فأجيب: لا شيء سوى المهم، والمهم هو تطبيق الدستور". ويشرح ذلك بأن "تركة الحسن الثاني هي ازدواجية النظام: تقليدي في العمق، دستوري في الظاهر. ولا أدل على ذلك من سلوك المسؤولين، كل المسؤولين (لاحظ التعميم) تصوروا كما لو لم يكن دستور خوفا على مناصبهم، إذ يعلم كل واحد منهم أن منصبه منحة ومنة".
ويدعو عبد الله العروي إلى الحسم في هذا الإشكال "ولا يستطيع ذك إلا الملك نفسه بتطبيق الدستور في مبناه ومعناه"، وأحيانا يتخذ هذا الانشغال شكل فكرة مضادة لما هو رائج.
كما كتب هو نفسه يوم الاحد 7 نونبر "فكرة سائدة، أن الملك الجديد أكثر تقدمية من حكومة التناوب، فكرة عقيمة. الملك -هذا أو غيره- يأمر، أي يلفظ، يعبر عن أمان وتطلعات، مثله مثل سائر الناس، في حين أن الحكومة هي المكلفة بالتطبيق، هي التي تواجه الصعوبات والعراقيل".
ويتخذ الأمل في بناء المرحلة البرلمانية، شكل انتقاد سلوك جماعي، لا يعفى منه المسؤول أو المطالب بالحق المدني! ويسلط العروي الضوء على مفاصل العمق المحافظ واللادستوري، من زاوية النظر، التي تعطل دولة المؤسسات. ويقول العروي "كل واحد منا يطالب بدولة القانون أو دولة المؤسسات بالديمقراطية، لكنه في سلوكه اليومي ينتفع من الاستبداد ويرسخ قواعده. من منا لا يحلم بعرض مشكلته على الرأس، لتحل في الحين؟ العاطلون وأهل الصحراء، العمال المضربون، أنصار الأمازيغية وأنصار المرأة.. كلهم، في نظر العروي، "لا يطمئنون إلى النهج الديمقراطي"، ويتساءل بحرية "كيف يتجذر الفكر الديمقراطي إذا كان هذا هو سلوك أنصاره المعلنين"؟...
هذا الاستبطان الطوعي، "اللذيذ" للاستبداد، يثير حيرة العروي، ويوضح في الوقت ذاته أن الفكر الديمقراطي لا يحظى بنفس "الاحتضان الدافئ"، إذا كان المطالبون به، يتخلون عنه في أي لحظة من لحظات الاستعصاء الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي.. إنه "الاستبداد بالتقسيط المريح" أو بلغة الأستاذ عبد الله العروي "الاستبداد جميل ومريح ومفيد للكثيرين"...
ويتخذ الانشغال الدستوري حينا آخر شكل سخرية حادة، تصل الى أن تحول موضوعها إلى.. بليد، كما كتب يوم الاثنين 18 نونبر في سنة 2002 "الصمت الذي عم البلاد وليد الخجل. يعلمون كلهم أنهم المسؤولون عما حدث. لو أرادوا.. لو قرروا.. لو اتّفقوا.. لكانت قفزة نوعية في تسيير البلاد. لكنهم كانوا كالعبد الآبق، يحنّ إلى راحة القفص".
ويخلص العروي، في هذا الاهتمام إلى بدهية أساسية شكلت الوعي السياسي لدى أجيال الحركة الوطنية، والمتعلقة بما تسميه الادبيات الاتحادية بانقلاب 1960 على حكومة عبد الله إبراهيم الذي أدخل المغرب في صراع مرير بين الشرعيات.
لهذا يضيف في سياق حديثه الأول "ما يغفل عنه المعلقون -وما أكثرهم!- هو أن وضع المغرب لا يحتمل إلا حلين: الحل البرلماني الذي كنا نسير تجاهه، أو الحل الرئاسي كما حصل بعد 1960 وبعد 1965. كما قِيل عن عجز الحكومة، تناحر الأحزاب، إهمال الاقتصاد، خطر الإسلاميين (الذين حلوا محل اليساريين)، إنما كان الهدف منه دفع الناس إلى خلاصة واحدة: أن يتحمل صاحب الأمر المسؤولية كاملةً.
ومن يعتقد أن ما يروج من أن الوزير الأول الجديد سيكون وزيرا أول بالمعنى الكامل فهو غبي.. هو منفذ.. خطَط من؟".
وأخيرا يتخذ الانشغال الدستوري شكلا أكثر تدقيقا، في الرد على حوار يومية "الفيغارو" حول الملكية التنفيذية، وأعلن العروي في مدونة الاثنين 10 شتنبر "أنه بدل الشك باليقين في استجواب مع مراسل الفيغارو، فيه رد على انتقادات لوموند.
يقول في المقدمة إن المغاربة (كما لو عرف دواخلهم أو استنطقهم واحدا واحدا) لا يريدون ملكية على النمط الإسباني، بل يتطلعون إلى ملكية قوية تنفيذية (ترجمة لكلمة ex?cutive الفرنسية). هذا تأويل رئاسي للدستور الحالي مع أن التأويل البرلماني وارد، كما أوضحت ذلك في عدة مناسبات. يحتكر الملك كل السلط التمثيلية ويشفعها بأخرى تنفيذية. البرلمان مقيد بالإمامة والحكومة مطوقة بالملكية. كلتا المؤسستين مؤازرة للملك وتحت أمره. عندما تلخص جريدة اليابس الاسبانية مؤدى الاستجواب أن محمد السادس يرفض ملكية برلمانية، فذاك عين الحق.
سيقول الكثيرون إن كل شيء كان مدبرا منذ البداية. ذلك ما يقرأ في كتب الحيل. قد يصدق التخمين وقد لا يصدق. المحقق أننا لم نغادر القفص الذي شيده الحسن الثاني وسجننا فيه، إذا استمرت الأمور في هذا الاتجاه، ولا داعي إلى تغيير الوجهة إذا فضل الجميع تجنب المواجهة.
الأعذار كثيرة جاهزة: حبذا لو وجد الملك الجديد حكومة قوية يعتمد عليها! لكنه لم يجد، فأرغم على تحمل المسؤولية كاملة، كما فعل والده. ثم هناك الظروف القاهرة: معاندة الجزائر، عداء إسبانيا، الوضع المتفجر في الشرق الأوسط... إلخ.
يجب الخوف عليه لا الخوف منه.
لا جديد في كل هذا. وهو ليس في صالحنا".
هل تغيرت الأشياء كثيرا بعد هذا التوصيف؟
نفس السؤال مازال مطروحا على حكومة انبثقت من دستور قوي، ولكنها تضعف يوميا شرعيتها الديموقراطية والدستورية!!