التوازن في اللغة من الاتزان، وهو عين العقل بالوقوف عند الوسط والوسطية في الأمور. وقد عبر قبل الميلاد بقرون عن ذلك فلاسفة الإغريق (أرسطو خاصة) عندما تحدثوا عن "الوسط الذهبي"، وهو بمعنى أن يعكس سلوك الإنسان العام في الحياة التزاما بتوسط معتدل بين ثنائية التطرّف في كل شيء.
وذلك ما فصل فيه الإسلام القول بـ "خير الأمور أوسطها" ثم "لا إفراط ولا تفريط": الاعتدال الذي يبدو سهلا خفيفا على اللسان ثقيلا على السلوك. فما بين العقل والوجدان، والإسراف والبخل، والجبن والتهور، الوفاء والجحود، والتمرد والانبطاح..... وهي ثنائية القيم التي la dichotomie de valeurs عرقلت تطور البشرية لقرون (مبدأ الثالث المرفوع) بمنع الحرية والإبداع والكرامة والديمقراطية وما زالت قائمة في كل ما يلغي الآخر والاختيار الثالث اللانهائي، le principe du tiers exclus chez René Descartes ما بين جمود طرفي النقيض هاذين، هناك وسط هو وحده ضمانة السكينة والحريّة والتعايش والتسامح مع الذات ومع الآخر... تماما كما الإبداع لدى الفوتوغرافي الذي لا يتفتق ويسمع وينتعش إلا بما بين ثنائية أسود/ أبيض وهو أفق رحب لما لا نهاية لَهُ من جمالية التدرج الرمادي بين طرفي الأبيض والأسود. فَلَو أُكره الفنان الفوتوغرافي على الاختيار بين الأسود والأبيض، الأول بضوئه الشامل القاتل للبصر، والثاني بانعدام سنائه المانع للرؤية، لما كانت هنالك صورة ولما كان هناك إبداع بل فقط، وبالتالي رأي أو حوار ولا فسحة للعقل ولا لمتعة الكشف والانكشاف.
إن التوازن اتزان ونعمة ينبغي حمايتها بحزم، وليس التعصب سوى وليد الفساد والظلم والاستبداد المقنع بالاستهتار والإفراط في الانحياز للسواد.. سواد يغرق في الأنانيات وتهريب فضاءات البينذاتية، التي وحدها تسمح بتلاقي الذوات على اختلافها، بفضاءات صداقة الفضيلة الأرسطية، حيث المنفعة والمتعة مترعة على الشرعية والمشروعية. فلم السرقة ولم التزوير ولم السطو على الحقوق بل ولم القتل؟ إن لم يكن ضعفا مُبينا ونكرانا لوعي فاشل في تمثل التسامح والتعايش وكبح الحيوان في بعضنا.
عندما يصادر في مجتمع فضاء الوسط والبينذاتية، يتقاتل الأبيض والأسود، فتسقط كل أدوات الفكر والفن مدرجة في دمائها.