في خضم النقاش المحتدم حول "المدرسة الرائدة" يطفو سؤال جوهري يتجاوز الجدل المالي والإداري: هل يستند هذا التحول المفترض إلى نسق تربوي أصيل ومتماسك، أم أنه يمارس تشويشا على الجهاز المفهومي الذي تراكم عبر عقود من النظرية والتطبيق المغربيين؟
يبدو أن المشروع، وعلى رغم استعماله لمصطلحات وافدة مثل "طارل" (التدريس وفق المستوى المناسب) و"التعليم الصريح"، يعاني من انفصام خطير بين المفاهيم التربوية المؤسسة وبين الترجمة الميدانية المشوّهة التي تختزل العملية التعليمية التعليمية في إجراءات تقنية مجردة من الروح النقدية والغايات الإنسانية. هذا ليس مجرد فشل في التطبيق، بل هو إجهاض لمبادئ المنهاج التربوي الشامل الذي يفترض أن ينتج كفايات متكاملة، لا مجرد أداءات معزولة عن الحياة.
نظريا، تقف مقاربة "طارل" (Teaching at the Right Level) على أرضية تبدو سليمة، مستندة إلى مبدأ مركزي في الديداكتيك وهو ضرورة مراعاة الفروق الفردية. فهي تنتقد المنطق الآلي الذي يربط التعليم بالعمر الزمني فقط، وتركز على المهارات الأساس كالقراءة والحساب. وقد أظهرت نتائج أولية في تجارب مغربية تحسنا في نسب التعلم. إلا أن الخلل يكمن في التطبيق الذي حوّل الفلسفة من "دعم مؤقت" إلى "نظام دائم"، مما أنتج تناقضات صارخة،... عبر اختطاف مفهوم التقييم، حيث تحول التقويم التشخيصي، الذي هو خطوة أولى في سيرورة الدعم التربوي، من أداة لفهم الصعوبة إلى آلية للفرز والتصنيف الجامد. "روائز الموضعة" لم تعد تفهم في إطارها البنّاء كجزء من التخطيط الديدكتيكي المرن، بل صارت أداة لـ"تفيء" التلاميذ ووضعهم في شرانق "مستويات" مغلقة.
ومع الأسف تم إفراغ "البيداغوجيا الفارقية" من محتواها، فتحولت المقاربة التي تزعم معالجة التعثر إلى نظام ينتج هويات جديدة. لم يعد الطفل "لديه صعوبة في القراءة" يمكن تجاوزها، بل أصبح "من مجموعة القراءة الأولى". هذا الانتقال من وصف الصعوبة إلى تكريس الهوية يناقض جوهر التربية الذي يركز على النمو المتكامل للفرد وتغيير وتعديل السلوك. بذلك، تتحول المقاربة من أداة دعم إلى آلة لـ"الوصم المدرسي"، مما يقوض الثقة النفسية وينتج "هوية مدرسية منقوصة" ترافق المتعلم لسنوات.
ونسجل بقوة تعطيل سيرورة التعلم بتحويل التجميع المرحلي إلى وضعية دائمة يعني عمليا تجميد التلميذ عند "مستواه" المحدد، بدلا من دفع عجلة تقدمه نحو الكفايات المستهدفة لمستواه الدراسي الحقيقي... فيصبح الهدف هو تحسين أداء المجموعة داخل خانتها، وليس نقل التلميذ من خانة إلى أخرى. هذا يتناقض مع مبدأ "التعلم المتدرج والمبني على تراكم المهارات" الذي ترفعه المقاربة نفسها.
أما التعليم الصريح فلا يعدو كونه اختزالا للغايات التربوية في تلقين المهارات الذي يقدم كمقاربة حداثية، فيقع في فخ اختزال العملية التعليمية التعلمية المعقدة. حيث يتمحور هذا النهج حول تقديم المعلومات بخطوات واضحة ومباشرة، مع تقسيم المهارات المعقدة إلى وحدات صغيرة. بينما يمكن أن يكون هذا مفيدا في سياقات محددة، إلا أن تعميمه كمقاربة رئيسية، خاصة في السلك الإعدادي، يثير إشكاليات عميقة:
ونتج عن هذا الخيار تآكل المرامي العليا للتربية، ببتركيزه الحصري تقريبا على التلاميذ "المتعثرين" وعلى المهارات الأساس، يتخلى هذا النهج عن الغايات والمرامي الأوسع للمنظومة. فـالغايات التربوية هي عبارات فلسفية عامة تتسم بالطموح والتجريد وترتبط ببناء الإنسان ومساهمته المجتمعية. بينما المرامي أو المقاصد هي أهداف أقل عمومية لكنها تظل مرتبطة بنظام تربوي متكامل. "التعليم الصريح" المطبق يختزل هذه الأبعاد كلها في هدف ضيق هو "معالجة التعثر"، متجاهلا حاجات الفئات المتميزة والجيدة والمتوسطة الراغبة في التميز. إنه بذلك يخون مبدأ الإنصاف الحقيقي، الذي لا يعني سحب الجميع إلى حد أدنى، بل يعني تمكين كل فرد حسب طاقاته.
والأخطر هو وأد الاستكشاف وبناء الشخصية الناقدة، حيث يصطدم هذا الأسلوب مع بيداغوجيات أخرى أثبتت فعاليتها في بناء الكفايات العليا، مثل التدريس بالأنشطة أو بيداغوجيا الاكتشاف. فهو يعيد إنتاج التلقين تحت غطاء جديد، مركزا على "كيف" يؤدي التلميذ المهمة، ومتغاضيا عن "لماذا" يؤديها، وعن تنمية الفضول والبحث والتساؤل. إنه يصنع متعلما "منفذا" جيدا، وليس مفكرا أو مبدعاًط. وهذا يتناقض جذريا مع سوق العمل المستقبلي الذي يحتاج إلى مهندسين وأطباء ومفكرين قادرين على الابتكار وليس فقط التطبيق الآلي.
في هذا السياق يبرز سؤال التوجيه الضائع: بافتراضه أن جميع التلاميذ يحتاجون المسار التصحيحي نفسه، فيتجاهل "التعليم الصريح" حقيقة أساس، وهي أن دور التوجيه المدرسي يبدأ من تحديد الميول والقدرات المختلفة. فبدلا من إعداد التلميذ لمسار دراسي أو مهني يناسب طبيعته بعد الإعدادي، يحبسه النموذج في ورشة تصحيح مستمرة، مما يهدد بقتل المواهب الخاصة وإهدار الطاقات التي تحتاجها البلاد في التخصصات العليا.
ونسجل أن استنزاف المدرسة مستمر بتحول المفاهيم إلى سوق للمشاريع، فالخلل الأكبر لا يكمن في المقاربتين بحد ذاتيهما، بل في الإطار الشامل الذي ينفذان فيه، وهو ما يظهر تناقضا صارخا مع روح المستجدات التربوية المغربية الحقيقية.
لنقل إن الكتاب المغلق مقابل العقل الحي هو طامة "طارل" حين يتحول"التعليم الصريح" إلى إجراءات مغلقةفي "دلائل" وعبر مذكرات تنميطية، مما يُفرغ عمل المدرس من بعده الإبداعي ويحوله من فاعل تربوي يمتلك الحدس البيداغوجي والخبرة، إلى مجرد منفذ تقني. لقد تمت مصادرة السلطة المهنية للمدرس تحت شعار التوحيد، مما قتل روح المبادرة وحول الحوار التربوي إلى مراقبة إدارية.
ولا ننسى أن المفاهيم غدت غطاء للاستنزاف، فتحت غطاء هذه المصطلحات "الحداثية"، يجري استنزاف مالي هائل. توجه الموارد الضخمة نحو تكوينات سريعة وطباعة دفاتر وشراء تجهيزات، بينما تبقى المشاكل الهيكلية الحقيقية قائمة: اكتظاظ الأقسام، تدني البنية التحتية، ونقص الموارد البشرية المؤهلة تأهيلاً حقيقياً. المشروع بذلك يكرس ثقافة "الاستهلاك التربوي" حيث تشترى الحلول الجاهزة كسلع، بدلا من بناء نموذج أصيل ينبثق من تشخيص عميق للواقع المغربي مع تفريغ الكفايات من المعنى، إذ أن الكفاية في المنظور التربوي المغربي الأصيل هي نظام متكامل يدمج المعارف والمهارات والمواقف لحل مشكلات في سياقات جديدة. أما في نموذج "الريادة" المشوه، فالكفاية تختزل في "مؤشر" كمي ضيق يقاس برائز سريع. بذلك، تفقد المدرسة دورها في بناء شخصية المتعلم وقيمه وقدرته على التفكير النقدي، وتتحول إلى خط إنتاج لأداءات محددة سلفاً.
ليس المطلوب رفض كل جديد، بل المطلوب تمحيصه ودمجه في النسق التربوي الوطني بعمق ومسؤولية. الإصلاح الحقيقي لا يكون باستيراد شعارات وترجمتها إلى إجراءات جوفاء، بل بالعودة إلى القلب النابض للمفاهيم التربوية المغربية: بناء الإنسان المتكامل، تحرير المدرس ليكون مثقفا ومبدعا، واعتبار التلميذ ذاتا قادرة على النمو والتفوق. لقد حان الوقت لوقف هذا المسار الذي يحول المدرسة من حقل لبناء الإنسان إلى سوق لاستهلاك المشاريع، ولنبدأ نقاشا جادا يعيد للتربية معناها، وللغايات روحها، وللمستقبل أمله.
خالد أخازي، كاتب وإعلامي

