Thursday 20 November 2025
كتاب الرأي

زكية لعروسي: بشرى لصحرائنا بجمالها

زكية لعروسي: بشرى لصحرائنا بجمالها زكية لعروسي
كأن الصحراء قد أرسلت أحد أبنائها ليذكّر العالم بنسبه الأول، فإذا بالجمل يخرج من رحم الرمال إلى جبهات الثلج، يمشي على طرقات أوكرانيا كما لو كان يعبر بين عالمين: عالم إستهلكته الماكينات، وعالم ما زال يحتفظ ببقايا الروح. يا لبشارة الصحراء، إذ عاد إليها حضورها من خلال مشهد غرائبي، جمل يجرّ خطاه وسط الدبابات، شاهدا على حماقة الإنسان الذي أنهكته أدواته، فاستعان بالحيوان ليستكمل بها جنونه.
 
أن يشارك الجمل في حرب القرن الحادي والعشرين ليس أمرا طريفا، بل علامة تهكمية كتبها التاريخ بيده الساخرة. في زمن الطائرات المسيّرة والخوارزميات القاتلة، تقف القوافل القديمة على حافة المعركة، كأنما الزمن ينعطف على نفسه، فيعود من غده إلى ماضيه، ليثبت أن التقدم خطّ دائريّ لا مستقيم، وأن الحضارة إذا بلغت ذروتها عادت تبحث عن جذورها. 
 
إن الجمل في الثلج ليس حادثا عسكريا بل حدثا فلسفيا، مرآة يرى فيها الإنسان وجهه القديم وقد تلطّخ بطين المعاصرة. في كل حرب ينسى الإنسان نفسه، وفي كل نسيان تعود الطبيعة لتذكّره. فحين تستعمل الجمال والحمير لنقل الذخائر، فإننا لا نرى فقرا في العتاد فحسب، بل فقرا في الوعي. إنّ التقنية، وقد بلغت عنان السماء، تعجز عن حمل معنى البقاء، بينما الجمل، بحمله الصامت وصبره الطويل، يذكّرنا بحكمة البساطة التي لا تهزمها آلة. إنه يقول لنا بصمته: ما نفع الحديد إن لم يحمل الرحمة، وما نفع الذكاء الاصطناعي إن لم يتعلّم التواضع من دابة تعرف دربها دون بوصلة.
 
لقد كان الجمل في ثقافتنا مخلوق الصبر، ذاكرة القافلة، لسان الصحراء حين تصمت، وصورة الجمال في القسوة. وكان الشعراء يرونه مرآة الإنسان حين يختبر صموده في وجه العدم. واليوم يعود الجمل إلى ساحة حربٍ أوروبية ليذكّر العالم بمعنى كان يظنه قد تجاوزه: أن البقاء لا تصنعه التقنيات بل تصنعه الإرادة، وأن الجمال، مثل الإيمان، يولد في العراء لا في المدن المحصّنة.
 
في مشهد الجمل المأسور بين جليد أوكرانيا ونار الحرب، يطل وجه التاريخ بملامحه الغابرة. فها هي حضارة تشيّد جيوش الذكاء الصناعي ثم تعجز عن تأمين وقود لمدرعاتها، فتلجأ إلى الحيوان كآخر حيلة للبقاء. كأن الإنسان، وقد طغى، سلبت منه أدواته ليعاد إلى أول الخلق، يسمع النداء القديم يتردّد في الفراغ: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كانت عاقبة الذين اغترّوا بقوتهم؟ إن في هذا المشهد تذكيرا بأن الكبرياء التكنولوجي ما هو إلا وجه جديد للجهل الأول.
 
الصحراء، وهي تتابع هذه المفارقة من بعيد، تبتسم بحكمة العارف. لقد استرجعت ابنها الغائب، لا على رمالها بل في ثلوج الآخرين، لتقول: ما زال لي في الأرض أثر. ففي كل جمل يسير على الجليد ظلّ من رمل عربي، وفي كل حملٍ ينوء به جسده نفَس من أنفاس البدو الأوائل الذين صنعوا من العطش فنا ومن الانتظار فلسفة. ما أشبه اليوم بالأمس، حين كان الجمل يحمل القوافل في طريق الحروب المقدسة، واليوم يحمل الذخائر في حرب لا تعرف قدسا ولا قضية، فقط عبث الإنسان بإنسانيته.
 
في هذا المشهد يتقاطع التاريخ مع الأسطورة، والسياسة مع الفلسفة، والحيوان مع الإنسان في رقصة عبثية من أجل البقاء. ومع ذلك، في قلب هذا العبث يسطع الجمال. الجمال الذي لا ينهزم، الجمال الذي يتسرّب من تحت الركام كجدول ماءخفيّ، الجمال الذي يقول للقرن الحديدي: ما زالت الأرض قادرة على أن تلد دهشتها. فبشرى لصحرائنا بجمالها، إذ وجدت في جنون العالم ما يبرر حكمتها، وفي عودة الجمل إلى الثلج ما يعيد إلى الوعي شيئا من المعنى.
 
ربما كان الجمل آخر شاهد على أن الحرب ليست نقيض الجمال بل صورته المعكوسة، وأن الإنسان حين يفقد الشعر في حياته يستبدله بالصوت المعدني للرصاص. لكن الصحراء تعرف أن الزمن يدور، وأن من يسير في الأرض بعين التأمل لا بعين القهر يرى في كل خطوة آية. وهكذا تمشي القوافل من جديد، لا نحو المرافئ بل نحو الذاكرة، تحمل على ظهورها آخر ما تبقى من إنسانية العالم.