في فضاء سياسي تتقاطع فيه المفارقات وتتسارع فيه الاستفزازات، لم تعد التصريحات الغريبة التي يصدرها من يُفترض أنهم “نخب“ مجرد حالات معزولة تُثير الدهشة، بل صارت مؤشراً على تحوّل بنيوي عميق في طبيعة الفعل السياسي ذاته. من برلماني يجعل من وجبة “البيصارة“ أداة دبلوماسية لحسم قضية وطنية، إلى وزيرة يقاس فطورها بثمن خيالي، إلى سياسي يطالِب المواطنين برشقه بالحجارة إذا لم يُغدق عليهم بكرمه الحاتمي في حال فوز حزبه في الانتخابات، تتضح ملامح ما يمكن وصفه بـ تفاهة المعنى في المجال العمومي.
سوسيولوجياً، تكشف هذه الظاهرة عن تآكل الرمزية في الممارسة السياسية؛ إذ أصبح الخطاب السياسي مسرحاً لغوياً للعرض والمشاهدة، وأضحى الظهور الإعلامي أهم من الفعل الواقعي. لم يعد المجال السياسي يقوم على الإقناع العقلاني أو النقاش البرنامجي، بل على إنتاج الصدمة والتسلية، فاستُبدلت الفكرة بالمشهد، والرؤية بالشعار، والمواطنة بالاستهلاك الرمزي. هنا يتجسد ما أسماه بيير بورديو بالعنف الرمزي المقلوب: إذ لم يعد السياسي يمارس سلطة الخطاب لبناء الوعي، بل لإفراغه من محتواه، مما يولد شعبوية استعراضية تغذي السخرية الجماعية وتخلق وعيًا زائفًا بالمشاركة.
إن هذه التصريحات تجسيد لانهيار الواقعي في زمن المحاكاة؛ فالوطنيّة تختزل في وجبة غذاء، والسياسة في وعد مالي، والمواطنة في لحظة “ترند“. خطاب كهذا يحاكي السياسة دون أن يكون سياسياً حقاً؛ خطاب يعيش على فتات الرموز بعد أن تهاوت القيم والمعايير التي تمنحه المعنى. هذا الانحدار لا يعكس أزمة في الخطاب فحسب، بل أزمة وجودية في وعي الفاعل السياسي، الذي فقد علاقته بالمسؤولية والتاريخ، واكتفى بدور “العارض“ في مسرحية بلا مضمون.
إن “السياسة البيصارية“ ليست مجرد سقوط لغوي أو نكتة عابرة، بل علامة على تفكك المجال العمومي واندثار الفعل السياسي كأفق للتفكير الجماعي. السياسي الذي يجعل من “البيصارة“ حجة دبلوماسية يختزل الوطن في المعدة، والوزير الذي يقيس فطوره بالدراهم يحوّل الخدمة العمومية إلى استهلاك نرجسي، والمرشح الذي يشتري الوهم بالوعود المالية يعيد إنتاج علاقة “السيد والعبد“ في الفضاء الانتخابي.
مقاومة هذا الانحدار لا تتحقق بالتنديد الأخلاقي وحده، بل بإعادة تأسيس السياسة كمجال للمعنى والمسؤولية؛ عبر تربية المواطن على النقد بدل التهكم، وعلى الوعي بدل الانفعال، وعلى الفعل بدل التلقي. حين يُستعاد العقل كأداة للفهم، لا كوسيلة للتبرير، يمكن للسياسة أن تتحرر من الابتذال وتستعيد جوهرها: فن تحرير الإنسان من التفاهة، لا تسويقها في صحن من البيصارة.