"الماء لا يترك البحر يا عماه، يتبخر ثم يعود في الشتاء، يعود أنهارا وجداول، ولكنه يعود" ("المتشائل"، إميل حبيبي)
"مات محمد بسطاوي، وماء الحياة الذي تبخر لا بد أن يعود
لابد أن يعود بشكل من الأشكال
يعود بأدواره العديدة المتعددة
بمواقفه الفنية المبدعة
بأسامة وهاشم وفاطمة الزهراء البهية
بالحب الذي منح للفن و الوطن صبحا وعشيا...".
صبيحة يوم الأربعاء 17 دجنبر 2014 غادرنا ابن الشعب محمد بسطاوي 2014.. ترجل الفارس الأصيل عن صهوة جواده.. رحل الفنان المبدع في عز عطاءاته.. مخلفا حسرة في نفوس عشاق فنه وحرقة في أفئدة المسحورين بقوة شخصيته وتراثا إبداعيا قل نظيره.. عشرات المسرحيات والمسلسلات والسلسلات والأفلام التلفزية والأشرطة الروائية.. غادرنا والفن المغربي والعربي في حاجة ماسة لخدماته ولتجربته الخلاقة...
حشد من الفنانين والأدباء والمثقفين والرسميين، إلى جانب جمهور مغربي غفير، جاء لوداعه وتحيته على مجمل إبداعاته..
مشهد جنائزي مهيب وحضور ذرف الدمع على رحيل مبدع استثنائي يصعب أن نجد، في الوقت الراهن، فنانا من حجمه، بإبداعات قل نظيرها في دنيا الخلق، حيث الصدق والوفاء للقيم الخالدة واللحظات الفنية الأصيلة والابتكار الخلاق في الأداء والعطاء، إضافة لإنسانية غامرة بحب الفقراء والناس الطيبين البسطاء.
من اليمين: الراحل محمد بسطاوي مع رفقاء دربه الفني: خويي، المباركي، فاضل، الهواس والشاعر عبد الله الريامي
ولد محمد بسطاوي سنة 1954 بمدينة خريبكة، حيث ترعرع على قيم الوفاء للجماهير الشعبية، وشب على نضالات الطبقة العمالية.. هناك تعلم أبجديات الفن والمسرح النضالي، قبل أن يهاجر الوطن نحو إيطاليا باحثا عن فضاء أرحب وعالم أجمل، لكن حب الأهل والبلد كان يسكن بين اللحم والعظم، فعاد للبحث عن غد أفضل ليساهم في بناء صرح الثقافة المغربي...
بداياته المسرحية الحقيقية كانت في أحضان "مسرح اليوم" رفقة الرائعين عبد الواحد عزري وثريا جبران، مقدما معهما، ومن خلالهما مسرحيات "حكايات بلا حدود" و"بوغابة" و"ايام العز" و"نركبو الهبال"، لينتقل بعدها لـ "مسرح الشمس" خالقا فرجة منتصرة للبعد الفكري الحق، رافعا راية البحث والتجريب رفقة الكاتب المتألق يوسف فاضل والمخرج عبد المجيد الهوس ورفقاء الدرب محمد خيي وعبد العاطي لمباركي ومحمد الشوبي، من خلال "خبز وحجر" و"فنطازيا"...
التلفزيون كان لمحمد بسطاوي بالمرصاد، رغم أن الرجل كان يتوجس منه خيفة.. فشارك في مسلسلات أولى نذكر منها "أولاد الناس" و"دواير الزمان" و"جنان الكرمة" لفريدة بورقية... مسلسلات صنعت له مجدا وفتحت له قلوب الجماهير المغربية.. مجد سيتكرس أكثر خلال السنوات الأخيرة مع سلسلات ومسلسلات عديدة كـ "وجع التراب" لشفيق السحيمي و"الحياني" لكمال كمال و"ياك حنا جيران" لإدريس الروخ و"كنزة فالدوار" لهشام العسري...
التلفزيون سيقدم له محمد بسطاوي أجمل الأدوار وأقواها في أفلام موقعة من أشهر المخرجين المغاربة.. أفلام يصعب حصرها، لكن من الممكن الإشارة لبعضها، خاصة تلك التي خلفت صدى طيب في النفوس والأفئدة الفنية المتطلعة لكل ما هو أصيل.. هنا نذكر: "علال القلدة" لمحمد اسماعيل و" انكسار" لعبد الكريم الدرقاوي و"علام الخيل" لإدريس اشويكة و" رحيل البحر" لفريدة بورقية و"سيد الغابة" و"الصالحة" و"الركراكية" لكمال كمال و"المهمة" و"الدم المغدور" لعادل الفاضلي...
الفنان الراحل محمد بسطاوي لحظة تكريمه بمهرجان مراكش
السينما كانت مجاله الأحب للخلق والإبداع.. إبداع أرحب بعشرات الأدوار الخالدة المتميزة في أفلام وقعها أشهر المخرجين المغاربة والأجانب.. أفلام بدأها بشريط "كنوز الأطلس" للمخرج محمد أوملود العبازي، ليكرس حضوره في عوالمها مع داود اولاد السيد في فيلم "باي باي سويرتي".. تجربة جعلت من بسطاوي المطلوب الأول في عشرات المشاريع الفيلمية.. مشاريع تحولت إلى علامات مضيئة في مسار السينما المغربية والعالمية.. أذكر هنا مشاركاته بأدوار مفارقة للواقع والفن في أشرطة مغربية مثل "عطش" و"جوهرة بنت الحبس" لسعد الشرايبي و" طيف نزار" و"الصوت الخفي" لكمال كمال و"طرفاية" و" في انتظار بازوليني" لداود اولاد السيد و" ألف شهر" لفوزي بنسعيدي و" أيادي خشنة" لمحمد عسلي و"أولاد البلاد" لمحمد اسماعيل و"جوق العميين" لمحمد مفتكر...
السينما العالمية استفادت كثيرا من خدمات محمد بسطاوي، سواء تلك المصورة في المغرب أو خارجه.. نذكر هنا عشرات الأدوار في الأفلام الدينية التي احتضنتها مدينة ورزازات أو أفلام أخرى كـ " قواعد الارتباط" للمخرج الأمريكي ويليام فريدكين و"باريس بكل ثمن" للمخرجة الفرنسية ريم الخريسي و"مراسلون خاصون جدا" للفرنسي فريدريك أو بورتان و"تازة" للمخرج الكندي دانيال جيرفي..
الراحل محمد بسطاوي رفقة زوجته الفنانة سعاد النجار
مسار متفرد أهل محمد بسطاوي للحصول على العديد من الجوائز الفنية المتميزة كجائزة أحسن ممثل بالمهرجان الوطني للفيلم سنة 2012 عن دوره في فيلم "أياد خشنة" لمحمد العسلي، إضافة لتكريمات في محافل ومهرجانات وطنية ودولية، كالتكريم الباذخ الذي خصص له سنة 2011 بالمهرجان الدولي للفيلم بمراكش...
رحيل محمد بسطاوي، وهو في عز تألقه، خسارة كبرى، لكن يبقى مع ذلك رحيلا رمزيا.. لقد رحل الجسد الفاني، لكن الروح الخلاقة المتوثبة، الروح المبدعة، ستظل محلقة فوق رؤوسنا، في سماء الإبداع المغربي، حاضرة محفورة في عمق الوجدان، وجدان الملايين من أبناء هذا الوطن...
رحم الله الفنان محمد بسطاوي، وأسكنه فسيح جنانه، نظير ما قدم من خدمات إنسانية وإبداعية، وألهم أهله وعشاق فنه الصبر والسلوان.
السينمائي والناقد عبد الإله الجواهري