Tuesday 4 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

مصطفى بشارات: عن برج "توري دي كونتي" و"غزة"

مصطفى بشارات: عن برج "توري دي كونتي" و"غزة" مصطفى بشارات
لا أعرف الكثير عن (أوكتاي سترويتشي) سوى أنه الشخص الذي قتل لدى انهيار برج (توري دي كونتي) في روما أثناء أعمال ترميم كان يقوم بها في البرج!
لا أعرف عمره، ولا اسمه، ولا وضعه الاقتصادي، ولا حالته الاجتماعية، ولا بأي حلم راوده أو فكرة جالت بخاطره حين عثر عليه رجال الانقاذ - وكان وقتها لا يزال صاحيا - قبل أن يغلق عينيه للمرة الأخيرة بعد أن نقلوه إلى المستشفى حيث أعلنت وفاته!
كما لا أعرف شيئا عن شعوره كلما سقط عليه حجر أو أكثر من حجارة البرج الذي بناه البابا إينوسنت الثالث في القرن الـ13 ليكون مقر أسرته، كذلك لا أعرف حجم الآلام التي عانى منها وهو عالق وسط الأنقاض وتحت وطأة ثقل أكوام الرمل الذي تكدس فوق جسده!
هل كان مكتنز البنية أم غض الجسد؟!
مع ذلك كنت متضامنا مع (أوكتاي سترويتشي) حالي كحال محمود درويش مع الشخص الغريب الذي كان يطالع جنازته ولم يعرف عنه شيئا إلا أنه سار في الجنازة – فعليا أو افتراضيا - وكتب عن ذلك قصيدة، من أعظم القصائد في معانيها ودلالاتها الإنسانية، قال في مطلعها
 
لا أعرف الشخصَ الغريبَ ولا مآثرهُ
رأيتُ جِنازةً فمشيت خلف النعش،
مثل الآخرين مطأطئ الرأس احتراماً. لم
أجد سبباً لأسأل: مَنْ هُو الشخصُ الغريبُ؟
وأين عاش، وكيف مات فإن أسباب
الوفاة كثيرةٌ من بينها وجع الحياة.
 
وأنا أواكب أهوال الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة طوال عامين، انتابني شعور عميق بالاحباط نتيجة عدم الاكتراث الذي أبداه العالم إزاء آلاف الضحايا الذين سقطوا في هذه الحرب؛ وكان أحد ردود فعلي استبدال عادتي في المتابعة المكثفة والتفصيلية للأخبار؛ بتكتيك - ربما يصبح لاحقا استراتيجية - يقوم على تصفح قائمة الأخبار العاجلة واختيار ما هو لافت منها فقط لمعرفة التفاصيل.
 
عنوان الخبر: انهيار مبنى أثري أثناء ترميمه ومقتل عامل.
ملخص الخبر: تبددت فرحة المنقذين حين توفي العامل الذي نجحوا في انقاذه.
أهمية الخبر: إضافة للخسارة الفادحة لهذا العامل الذي دفع حياته ثمنا من أجل الحفاظ على معلم تاريخي مهم، وإصرار رجال الانقاذ، رغم حجم المخاطر التي تهددت حياتهم، على انقاذ العامل، فإن اللافت في الخبر أيضا تصريح رئيسة الوزراء الايطالية جورجيا ميلوني، هذا التصريح الطافح بالإنسانية، وهي ترثي (أوكتاي سترويتشي).
 
"أعرب عن حزني العميق وتعازيّ للخسارة المأساوية للعامل أوكتاي سترويتشي. نحن إلى جانب عائلته وزملائه في هذا الوقت من الألم الذي لا يوصف".
 
هذا جزء من تصريح ميلوني في تعقيبها على هذا الحادث. نعم، هو حادث مأساوي، أؤكد مثلها على ذلك، لكن ماذا بالنسبة للآلاف الذين ذهبوا ضحايا للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة طوال عامين، بما فيهم الأطفال والنساء وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، هل يمكن وصف حجم وهول معاناتهم، ماذا عن الآلاف من ضحايا الحرب الآخرين الذين لا زالوا مفقودين، إما تحت أنقاض المباني التي هدمها القصف الإسرائيلي أو خلف أسوار سجون إسرائيلية بعضها سرية مثل سجن (سيدي تيمان) الذي بدأ يتكشف بعض ما يجري فيه من أنواع تعذيب واغتصاب للمعتقلين الفلسطينيين، لماذا لم تكن ميلوني إلى جانبهم، ماذا بالنسبة لعقود الأسلحة التي أبرمتها الحكومة الايطالية مع إسرائيل وتصر ميلوني على استمرار نفاذها رغم كل هذا الدمار والقتل الذي تسببت به آلة الحرب الإسرائيلية، لماذا أدارت ميلوني ظهرها لجموع الإيطاليين الذين خرجوا مطلع أكتوبر الماضي بأعداد لم تشهد إيطاليا مثيلا لها تضامنا مع أهل غزة ورفضا للحرب الإسرائيلية وتنديدا باعتداء الجيش الإسرائيلي على سفن (أسطول الصمود) الذي ذهب في مهمة هدفها إنساني بحت هو وقف هذه الحرب وإدخال الغذاء والدواء لسكان غزة المحاصرين والجوعى، لماذا استخفت رئيسة الوزراء الإيطالية بالمشاعر الإنسانية التي قال الشعب الإيطالي إنها سبب التظاهرات الحاشدة التي خرج بها، ثم لماذا عندما أدركت، وأخيرا، فداحة هذه الحرب وصلابة موقف شعبها وصدق حسه الإنساني، قالت في تعبير عن استمرارها في المراوغة واللامبالاة إن بلادها منفتحة على الاعتراف بدولة فلسطينية، لكن "وفق بعض الشروط والتحفُّظات"؟؟؟!!!
 
برج مثل برج (توري دي كونتي) الذي بناه البابا إينوسنت الثالث في القرن الـ13 ليكون مقر أسرته، هو معلم حضاري وعمراني مهم وشاهد على حقبة مهمة من تاريخ إيطاليا؛ لذلك تعتبر إعادة ترميمه مهمة انسانية نبيلة يستحق (أوكتاي سترويتشي) أرفع الأوسمة عليها؛ فما بالنا إزاء جملة من المدن في قطاع غزة، كانت تنبض بالحياة والتاريخ والحضارة والناس، وجاءت آلة الحرب الإسرائيلية لتحيلها كومة من الركام وبقايا القنابل والقذائق والصواريخ بعضها لم ينفجر ولا زال يقتل البشر: من يعيد لها الحياة، من يبنيها مجددا، ثم من يعاقب الجناة حتى لا يعودوا للقتل مجددا؟؟؟!!!
 
ملاحظة أخيرة: أشياء كثيرة لا أعرفها عن (أوكتاي سترويتشي)، حتى عينيه اللتين قلت إنه أغلقهما كما جرت العادة بالنسبة لأي متوفي، قد يكون فتحهما في وقت لاحق، لا أعرف، فعلا لا أعرف!
 
مصطفى بشارات كاتب فلسطيني