- من المثقف إلى الخبير إلى المؤثر: رحلة السلطة في زمن ما بعد الحقيقة
أثار القرار الذي اتخذته الصين مؤخرا، بمنع المؤثرين من الحديث في قضايا الطب والتعليم والصحة دون مؤهلات علمية، أسئلة تتجاوز حدود السياسة إلى تخوم الفلسفة..
يسعدني أن أتقاسم معكم بعض الأفكار حول أبعاد هذا التحول في الأدوار المرتبطة بالسلطة المعرفية..
 إن الحدث في جوهره ليس مجرد تنظيم للمجال الرقمي، بل علامة على تحول عميق في تاريخ التداول الرمزي للمعرفة، وفي موقع من يملك شرعية القول داخل المجتمع. نحن أمام إعادة ترتيب لهرم السلطة الفكرية، بعد قرن كامل من الانقلابات بين المثقف، والخبير، والمؤثر.
في زمن ما قبل التقنية، كان المثقف هو حامل الوعي الجمعي وصوت الضمير. كانت كلمته تجمع بين الرؤية الأخلاقية والقدرة النقدية، وتضفي على المعرفة طابع الالتزام الإنساني. غير أن الثورة العلمية والتكنولوجية قلصت مجال التأمل، ورفعت من شأن الخبير الذي يتكلم بلسان الأرقام والمختبرات لا القيم والمعاني. هكذا انتقلت الشرعية من الفضاء الأخلاقي إلى الفضاء التقني، ومن سلطة الضمير إلى سلطة المعيار. المثقف فقد هيبته لأنه لم يعد يملك مفاتيح الفعل في عالم يخضع للمعادلات لا الخطابات.
ثم جاءت الثورة الرقمية لتقلب المعادلة رأسا على عقب. لم يعد المثقف ولا الخبير هو من يحدد معنى الحقيقة، بل من يجذب الانتباه. صعد المؤثر بوصفه كائنا رقميا يعيش من وهج الصورة، لا من عمق الفكرة. إنه ينتج “انطباعات” لا “معارف”، ويشتغل على الرغبة لا على العقل. هكذا تلاشت الحدود بين المعلومة والرأي، بين النص والإعلان، ودخلنا عصر “السوق الرمزي المفتوح”، حيث القيمة تقاس بعدد المتابعين لا بصدق القول. إنها ديمقراطية الواجهة: الجميع يتكلم، لكن لا أحد ينصت...
أما التحول الراهن، ودشنته الصين، فيكشف عن رغبة العالم في إعادة الضبط والنظام في توزيع الأدوار، حيث لم يعد مقبولا أن تتحول المنصات إلى مختبر عشوائي للحقائق. هناك إحساس عالمي بالتعب من “الحرية المطلقة”، ومن التضخم المرضي للأصوات غير المؤهلة التي تغمر المجال العام. لذلك يعاد اليوم رسم حدود الشرعية الخطابية: من يحق له أن يتكلم في شؤون الحياة والناس؟ المعرفة تعود لتكون فعلا أخلاقيا لا عرضا رقميا، ومسؤولية جماعية لا نزوة فردية.
هكذا يبدو أن التاريخ يعيد بناء نفسه:
في البداية كان المثقف يملك شرعية المعنى، ثم الخبير شرعية الدقة، ثم المؤثر شرعية الظهور، وها نحن نعيش زمن النظام الذي يسعى إلى استعادة التوازن بين المعرفة والسلطة، بين الخطاب والحقيقة. إننا أمام عصر يعيد تعريف من يحق له أن يتكلم باسم الإنسان، بعد أن تكلم الجميع باسم الخوارزمية....
 
  
 
 
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
  
 