شاهدتُ فيديوهاتٍ كثيرةُ يستنكرُ، من خلالِها، فئةٌ عريضة من علماء وفقهاء الدين، ما أصبح مُتفشِّيا من مُنكر وفساد في البلدان الإسلامية. لكن ما أثار انتباهي، في هذه الفيديوهات، ليس مضمونُها الذي لا أحدَ يُنكِره. بل الطريقة التي يستنكر بها جلُّ المُتدخلين انتشارَ الفساد والمنكر في المجتمعات الإسلامية.
بالفعل، فئة عريضة من المُتدخِّلين العلماء والفقهاء يستنكرون هذين المنكرَ والفسادَ بصُراخ شديد وتكاد تهتز جميع أجزاء أو أطراف أجسامِهم، وهم يتوجَّهون إلى الجمهور. لكن، هل هؤلاء المتدخِّلون، ملزمون أن يتصرَّفوا بهذه الطريقة التي اعتدناها عند الأشخاص المُستبدُّين والطُّغاة الذين يريدون غرسَ أفكارهم السيِّئة والمُتطَرِّفة في نفوس الناس؟
بالطبع، لا، ثمَّ لا ولا شيءَ غير لا! ليسوا مُلزمين بالتَّصرُّف بهذه الطريقة. كل شخص يتَّصف بالرزانة وبالاتِّزان والرصانة والوقار…، يشرح للناس بهدوءٍ وبكل موضوعية objectivité ما يريد أن يُوصِلَه من رسائل لهؤلاء الناس. وعندما أقول "بكل موضوعية"، فهذا يعني أن لا يخشُرَ أفكارَه أو ذاتيتَه sa subjectivité في ما يريد تبليغَه للناس. فلماذا يصرخ بعض علماء وفقهاء الدين وتهتز جميعُ أطراف أجسامهم في مثل هذه الحالات؟
أولاً، لأن هؤلاء العلماء والفقهاء يُنصِّبون أنفسَهم كمُدافعين عن الدين، ولا أحدَ طلب منهم ذلك. والحقيقة أن الدين مسألة تدور أطوارُها بين الخالق والمخلوق. بمعنى أن الدينَ ليس مسألةً جماعيةً، بل فردية. والدليل على ذلك أن كل فردٍ له تديُّنٌ خاص به، أي له إدراكٌ خاصٌّ به للدين، أي لتطبيق هذا الدين على أرض الواقع.
ثانياً، لماذا قلتُ "يشرح للناس بهدوء"؟ لأن الناسَ ليس لهم نفس الإدراك للمنكر والفساد. المنكر هو كل الأفكار والأفعال التي تتناقض مع القيم الإنسانية. والقيم الإنسانية يمكن أن تكونَ دينية، اجتماعية، أخلاقية، اقتصادية، حضارية، ثقافية… أما الفساد، فهو كل الأفكار والأفعال التي تُفسِد الحياة داخلَ المجتمعات، أو التي تُفسِد تساكنَ cohabitation وتعايشَ coexistence الناس في المجتمعات. وعلماء وفقهاء الدين لا يشرحون للناس هذه الحيثيات. بل إنهم يدخلون مباشرةً في هستيريا hystérie الصُّراخ واهتزاز أطراف الجسم ليُبيِّنوا للناس أنهم يدافعون عن الدين، والحقيقة إنهم يدافعون عن أنفسَِهم.
ثالثاً، هؤلاء العلماء والفقهاء يُخفون عن الناس أشياءَ كثيرةً. لماذا؟ ليُرسِّخوا في أذهان الناس إنهم، فعلاً، يدافعون عن الدين. فما هي الأشياء التي يُخفِيها هؤلاء العلماء والفقهاء عن الناس؟ إنها كثيرة. سأكتفي بذكر البعض منها.
1.لا يقولون للناس أن الله، سبحانه وتعالى، هو الذي خلق ويخلق الشيءَ وضدَّه، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (الذاريات، 49). وهذا يعني أن اللهَ، عزَّ وجلَّ، هو الذي خلق المنكرَ وضدَّه المعروف أو الجميل. وهو الذي خلق الفسادَ وضدَّه الصلاح أو الإصلاح.
2. لا يقولون للناس أن اللهَ، خالقَ الإنسان وكل الكائنات الحية وغير الحية، هو الذي بثَّ في هذا الإنسان ميولَه للخير وميولَه للشر، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (الشمس، 7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (الشمس، 8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (الشمس، 9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (الشمس، 10). بمعنى أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لما خلق النفسَ البشرية، جعلها تميل فطريا instinctivement لِما هو خيرٌ ولِما هو شرٌّ (الآية رقم 8 من سورة الشمس : "فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا"). والفجور، هو ارتكاب المعاصي.
3.لا يقولون للناس أن اللهَ، سبحانه وتعالى، خلق الإنسانَ ب"ضمير حر" avec une، ،conscience libre وبيَّن له طريقَ الخير وطريق الشر. والضمير هو الذي يختار أحدَ الطريقين.
4.لا يقولون للناس لماذا وهب اللهُ، سبحانه وتعالى، العقلَ للإنسان. الله، عزَّ وحلَّ، وهب العقلَ للإنسان ليكونَ واعياً بوجودِه في الدنيا، و واعياُ، كذلك، بوجود الأشياء المحبطة به. والعقلُ هو الذي له القدرة على التَّمييز بين الخير والشر وبين الخبيث والطيب وبين الحق والباطل…
فلماذا يُخفي بعض علماء وفقهاء الدين هذه الحقائق عن الناس؟ لأنه، كما سبق الذكر، يريدون أن يظهروا لهؤلاء الناس كمدافعين عن الدين. لكن السؤال الذي لا مفرَّ من طرحِه هنا، هو : "هل الدين يحتاج إلى مَن يُدافع عنه؟
نعم وبكل تأكيد، إن الدينَ في حاجةٍ، دوماً، إلى مَن يدافع عنه. وخير المدافعين عن الدين هم الرسل والأنبياء الذين كان عليهم أن يواجهوا كيدَ أعداءِ الدين، من جاحدي هذأ الدين، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا" (الفرقان، 31).
الدفاع عن الدين مفضَّلٌ عند الله. لماذا؟ لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، الذي هو مبدِعٌ هذا الدين، ابدعه ليُسعِدَ به الناسَ. والله، عزَّ وجل، يريد الخيرَ لعباده، وأصلا، يريد أن يُدخلَهم الجنَّة، كلا حسب نوعية أعماله الدنيوية.
الدفاع عن الدين مفضَّلٌ عند الله، لكن ليس بالطريقة الهيستيرية d'une manière hystérique التي يتقمَّصُها بعض علماء وفقهاء الدين، بالصُّراخ واهتزاز جميع أطراف أجسامهم. والدينُ ليس فيه إكراهٌ. ولهذا، فالصراخ واهتزازُ أطراف الجسم لن يغيِّرا في الواقع شيئا، ما دام الخير يتساكن مع الشر، في نفس المجتمع، وبإرادةٍ إلهية، وما دام العقل هو الفاصل بين ما فيه خيرٌ للناس وبين ما فيه شرٌّ لهم.
وفي الختام، النفس البشرية تميل إلى الخير وتميل إلى الشر. والصراخ هو سلاحُ الناسِ الضعفاء فكريا، سواءً كانوا علماء وفقهاء أو غير ذلك. أي الناس الذين يحاولون تعويض النقص الفكري بالصراخ ولا يقولون الحقيقة كاملةً، ويُخفون عنهم نواياهم الحقيقية وكثيرا من الأشياء، لأنهم يريدون أن يظهروا لعامة الناس بوجهٍ غير الذي يُضمرونَه في صدورهم. والصراخ لن يُغيِّرَ في الواقع شيئاً. ما يُغيِّر الواقعَ هو دراستُه دراسة علمية والخروج باستنتاجات توجِبُ التَّفكيرَ في إيجادِ حلولٍ لها. الدين وسيلة لإصلاح المجتمعات وجعلها مثالية sociétés idéales، أو على الأقل، متوازِنة sociétés équilibrées.

