Monday 27 October 2025
Advertisement
مجتمع

 زكرياء بندالي: أزمة مجتمع قبل أن تكون أزمة مؤسسة… حين تتحول الأزمة إلى تهمة جاهزة

 زكرياء بندالي: أزمة مجتمع قبل أن تكون أزمة مؤسسة… حين تتحول الأزمة إلى تهمة جاهزة  زكرياء بندالي ومشهد أطفال وهم يجتازون سور المؤسسة
تفاعلا مع النقاش، ومن باب الإنصاف لا من باب التهرب من المسؤولية، أصبح من الضروري التوضيح أن ما يروج من انتقادات متكررة بخصوص ما يسمى “فرار بعض النزلاء من مراكز حماية الطفولة” يحتاج إلى قدر أكبر من التبصر والموضوعية في التحليل، بعيدا عن الأحكام الجاهزة والتوصيفات السطحية.
في هذا السياق، تشكل ظاهرة فرار الأطفال من مراكز حماية الطفولة أو مؤسسات الرعاية الاجتماعية تحديا حقيقيا لمنظومة الحماية، لما لها من انعكاسات سلبية على سير العمل داخل المراكز واستقرار النزلاء وفرص إدماجهم الاجتماعي. كما ورد في التقرير المقدم خلال المناظرة الوطنية حول “حماية الأطفال في تماس مع القانون” (الصخيرات 2023)، فإن هذه الظاهرة تعود إلى مجموعة من العوامل الذاتية والسياقية المرتبطة أساسا بطبيعة الفئة المستقبلة. ومن أبرز هذه العوامل تزايد أعداد المستفيدين بعد تعديلات قانون المسطرة الجنائية لسنة 2003، خاصة الأطفال في وضعية صعبة، مما جعل مسألة التصنيف أكثر تعقيدا، إلى جانب حالات الفرار المرتبطة بالذكور ذوي العود، وخصوصا الأطفال في وضعية الشارع والمدمنين وتجار المخدرات، فضلا عن التأثيرات النفسية والاجتماعية للفئة العمرية ما بين 16 و18 سنة، وصعوبات الاندماج أو الإدمان التي تجعل من الاستقرار داخل المؤسسة تحديا يوميا.
غير أن هذه الظاهرة لا تقتصر على المغرب وحده، إذ تشير المعطيات الرسمية في إسبانيا إلى أن حوالي 40 في المئة من القاصرين غير المرافقين يغادرون مراكز الرعاية خلال أقل من أسبوع، وأن أكثر من ألف طفل اختفوا من هذه المراكز منذ سنة 2010، وهو ما يبرز البعد الكوني للمشكل ويؤكد أنه مرتبط بطبيعة الفئة نفسها وتحديات اندماجها، لا بطبيعة المؤسسات القائمة فقط.
ومن هنا، يصبح من اللازم التأكيد على أن مراكز حماية الطفولة ليست مؤسسات سجنية ولا فضاءات مغلقة بالقوة، بل فضاءات تربوية اجتماعية هدفها الأسمى هو إعادة الإدماج والتأهيل النفسي والسلوكي للأطفال في تماس مع القانون أو في وضعية صعبة. وبالتالي، فإن ما يسمى “فرارا” لا يمكن اعتباره دليلا على فشل أو تقصير، بل هو في كثير من الأحيان سلوك متوقع بالنظر إلى طبيعة الأطفال الوافدين الذين يحملون في ذاكرتهم آثار الشارع، وجراح الحرمان، وحالة رفض متجذر لكل سلطة أو نظام ضابط.
إن العبارات الشعبوية من قبيل “المش ما كيهربش من دار العرس” أو “راه تيتعداو عليهم” لا تساعد على الفهم، بل تكرس نظرة تبخيسية تختزل ظاهرة اجتماعية وتربوية معقدة في جمل جاهزة للتشهير، وتحول قضايا الحماية والتأهيل إلى مادة للسخرية بدل أن تكون موضوعا للنقاش العلمي والسياسي الجاد.
ولا يمكن كذلك تحميل المراكز وحدها مسؤولية كل ما يصدر عن الأطفال بعد مغادرتهم، لأن هذه الوضعيات السلوكية هي حصيلة مسارات طويلة من التفكك الأسري، والتشرد، والانقطاع المدرسي، والإدمان، وهي كلها عوامل لا يمكن لمؤسسة واحدة مهما كانت مجهوداتها أن تعالجها بمفردها، بل تتطلب تضافر مؤسسات الدولة والمجتمع المدني في إطار سياسة عمومية مندمجة لحماية الطفولة.
وهذا التوجه ينسجم مع المواثيق الدولية لحقوق الطفل، وعلى رأسها اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، التي تمنع التشهير أو الوصم أو ربط الأطفال بممارسات جرمية بعد مغادرتهم مؤسسات الرعاية، استنادا إلى المواد 16 و39 و40 من الاتفاقية. كما يتطابق مع المقتضيات الوطنية، خصوصا المواد 460 و461 و471 من قانون المسطرة الجنائية، والفصل 446 من القانون الجنائي، والمادة 34 من القانون 65.15 المتعلق بمؤسسات الرعاية الاجتماعية، التي تؤكد جميعها على حماية خصوصية القاصر ومنع نشر معطياته أو صورته بأي شكل من الأشكال.
إن من السهل توجيه أصابع الاتهام إلى مركز واحد، لكن من الصعب الاعتراف بأن الظاهرة أعمق وأوسع من حدود أي مؤسسة، وأنها تعكس اختلالات بنيوية في منظومة الحماية الاجتماعية والتربوية. ففرار الأحداث مشكل كوني تعاني منه مختلف الدول، ويحتاج إلى مقاربة شمولية تقوم على الوقاية، والدعم الأسري، والمواكبة النفسية، والإدماج الاجتماعي والمهني بعد مغادرة المركز.
وفي الختام، فإن مراكز حماية الطفولة، رغم اشتغالها في ظروف صعبة، تبذل مجهودات حقيقية لإعادة بناء ما هدمته الشوارع، ولزرع الثقة في ذوات فقدت الإحساس بالأمان والانتماء. وهي ليست الجواب الوحيد، لكنها جزء من الجواب، داخل منظومة وطنية تحتاج إلى تضافر جهود الدولة والمجتمع معًا، من أجل حماية الطفولة وضمان حقها في حياة كريمة وآمنة.
 زكرياء بندالي، مهتم بقضايا الطفولة والشباب