Monday 6 October 2025
كتاب الرأي

عبد الواحد غيات: حروب بلا جيوش.. الجيل الرابع من الصراعات

عبد الواحد غيات: حروب بلا جيوش.. الجيل الرابع من الصراعات عبد الواحد غيات

حروب بلا وجوه: كيف غيّر الجيل الرابع قواعد اللعبة؟

تشير الحرب من" الجيل الرابع "إلى نمط حديث من الصراعات يتميّز بتراجع دور الدول القومية في الحروب، وظهور الشبكات الأيديولوجية كمحاربين رئيسيين. وعلى عكس الحروب التقليدية التي تركز على تدمير قدرات الخصم العسكرية، تهدف الحرب من الجيل الرابع إلى تقويض تماسك المجتمع وإرادته السياسية من خلال تكتيكات غير متماثلة، وغالبًا ما تستهدف السكان المدنيين والبنية التحتية.

تشمل العناصر الرئيسية لهذا النوع من الحروب الجهات الفاعلة غير الحكومية التي تستخدم حرب العصابات، والعمليات النفسية، ومجموعة من الاستراتيجيات الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية لتحقيق أهدافها.

ساحة المعركة في الحرب من الجيل الرابع غالبًا ما تكون منتشرة وغير محددة الجبهات، حيث تظهر النزاعات في البيئات الحضرية وفي تفاصيل الحياة اليومية. ويُستشهد كثيرًا بتنظيم القاعدة كمثال بارز على ممارسي هذا النمط من الحروب، حيث يستخدمون التكنولوجيا المتقدمة ووسائل الإعلام لنشر أيديولوجيتهم وزيادة نفوذهم.

يعكس هذا النموذج من الحرب تحولًا نحو صراعات طويلة الأمد، حيث لا يُقاس النجاح بالانتصارات العسكرية، بل بالقدرة على تقويض عزيمة الخصم وشرعيته. ومع استمرار تطور المشهد العالمي، بدأت مناقشات تظهر حول الجيل التالي من الحروب، بما في ذلك التكتيكات السيبرانية ونشر المعلومات المضللة، مما يشير إلى مستقبل معقد ومترابط للنزاعات.

تحول جذري في مفهوم الصراع العسكري

"الحرب من الجيل الرابع" هو مصطلح صاغه محللون عسكريون أمريكيون لوصف نمط من القتال بدأ في الظهور في أواخر القرن العشرين "1989". قام المحللون بدراسة عوامل مثل فقدان الدول القومية احتكارها للقوات القتالية، والتسارع الكبير في عولمة التكنولوجيا العسكرية. وبحلول عام 2006، أدى توافق آراء العديد من الخبراء، إلى جانب الخبرات المتراكمة، إلى الاتفاق على أن العناصر التالية تُعرّف الحرب من الجيل الرابع:

- أحد طرفي النزاع هو تنظيم أيديولوجي، أو "شبكة" من أفراد ذوي فكر مشترك، وليس دولة قومية. وهدف هذه الشبكة ليس الهجوم المباشر على القوات المسلحة للعدو، بل تقويض نقاط قوته واستغلال نقاط ضعفه بطرق مختلفة.

- تستخدم هذه الشبكة تكتيكات حرب غير متماثلة ضد الأسلحة التقليدية للعدو (مثل: العبوات الناسفة ضد قوافل الجنود المسلحين أو السفن...إلخ).

- لا تهدف الشبكة إلى هزيمة الجيش الوطني، وإنما إلى تقويض المجتمع نفسه. تأمل عمليات الحرب من الجيل الرابع في تآكل الخصم تدريجيًا حتى يفقد إرادته في القتال. وتكون هذه الحرب أكثر نجاحًا عندما لا تسعى الجهة غير الحكومية، على الأقل في المدى القصير، إلى فرض حكمها الخاص، بل تسعى إلى إرباك وإفقاد شرعية خصمها إلى درجة الانهيار.

الهدف هو دفع الدولة العدوة إلى استنزاف أفرادها ومواردها في محاولة (عقيمة) لفرض النظام، ويفضل أن يتم ذلك بطريقة تعسفية تؤدي إلى زيادة الفوضى، حتى تضطر الدولة إلى الاستسلام أو الانسحاب. الغاية الأساسية هي تآكل الدولة العدوة حتى تفقد إرادتها على الاستمرار في القتال.

الأجيال الأربعة للحروب

بالنسبة للمهتمين بنظرية الحرب من الجيل الرابع، فقد بدأ العد التنازلي في منتصف القرن السابع عشر مع ظهور الأسلحة النارية من طرف القوى الاستعمارية. ومن ثم، تم تصنيف أجيال الحروب على النحو التالي:

- الجيل الأول: حقبة نابليون، حيث بدأت الحروب بالأسلحة النارية والجيوش المجندة.

- الجيل الثاني: الحرب الأهلية الأمريكية والحرب العالمية الأولى، حيث كرّست الدول موارد ضخمة للحرب.

- الجيل الثالث: الحرب العالمية الثانية، تميزت بالحروب الميكانيكية والمدرعة والقدرة العالية على المناورة.

- الجيل الرابع: محاربون يدينون بالولاء لأيديولوجية بدلاً من دولة قومية، مما أدى إلى طمس الحدود بين السلم والحرب، وساحات المعارك والمناطق الآمنة.

فكل صراع كبير يستخدم أدوات وتكتيكات الحروب السابقة، لكنه يضيف ابتكارات جديدة، سواء كانت مدفوعة بالتكنولوجيا أو من خلال أساليب جديدة في تطبيق التكتيكات التقليدية.

4GW طمس الحدود بين الدولة والمجتمع في الصراع المسلح :

بشكل عام، بدت الحرب من الجيل الرابع واسعة الانتشار وغير محددة المعالم إلى حد كبير؛ حيث تلاشت الحدود بين الحرب والسلم تقريبًا. جاءت الحرب غير خطيّة، وربما وصلت إلى حد غياب ساحات معارك واضحة أو جبهات تقليدية. كما اختفت التفرقة بين "المدني" و"العسكري"، ووقعت الأعمال القتالية بشكل متزامن داخل عمق الطرفين المتحاربين، بما في ذلك مجتمعهما ككيان ثقافي، لا مجرد كيان مادي.

أصبحت المنشآت العسكرية الكبرى مثل المطارات، ومراكز الاتصالات الثابتة، والمقرات القيادية الكبيرة نادرة، نظرًا لسهولة استهدافها. وشمل هذا التهديد أيضًا المنشآت المدنية الحيوية مثل مقرات الحكومات، ومحطات الطاقة، والمصانع، بما فيها الصناعات المعرفية والتقليدية. واعتمد تحقيق النجاح إلى حد كبير على الفاعلية في العمليات المشتركة، حيث طُمست الخطوط الفاصلة بين المسؤوليات والمهام بشكل متزايد.

ورغم أن هذه الخصائص ظهرت في الجيل الثالث من الحروب، إلا أن الجيل الرابع عمل على تضخيمها بشكل ملحوظ. وعلى مدار نحو 500 عام، كانت الحضارة الغربية هي التي تحدد طبيعة الحرب، وكان يتعيّن على أي قوة عسكرية فعالة أن تتبنى النماذج الغربية. وبما أن قوة الغرب تمثلت في التكنولوجيا، فقد بدا طبيعيًا أن يُصوَّر الجيل الرابع من الحروب من منظور تقني.

لكن الغرب لم يَعُد القوة المهيمنة في العالم، وقد نشأ الجيل الرابع من تقاليد ثقافية غير غربية، كالتقاليد الإسلامية أو الآسيوية. ونظرًا لكون بعض هذه المناطق، مثل العالم الإسلامي، لم تكن قوية من الناحية التكنولوجية، فقد اتجهت إلى تطوير الجيل الرابع من الحروب من خلال الأفكار بدلاً من التكنولوجيا.

وظهرت بوادر هذا النوع من الحروب الفكرية في ظاهرة الإرهاب. وليس المقصود أن الإرهاب يُعَدّ بحد ذاته شكلًا من أشكال الحرب من الجيل الرابع، بل أن بعض عناصره شكّلت إشارات واضحة على هذا الاتجاه.

وقد عكست بعض مظاهر الإرهاب خصائص من الجيل الثالث للحروب؛ إذ إن الإرهابيين الأكثر فاعلية كانوا يعملون وفق أوامر عامة تصل حتى إلى مستوى الفرد. وكانت ساحة المعركة مبعثرة بشكل شديد، تشمل المجتمع الكامل للعدو. واعتمد الإرهابي على البيئة المحيطة والعدو ذاته لتأمين سبل العيش. وقد شكّل الإرهاب نوعًا من فن المناورة، حيث كانت قدرات الإرهابيين النارية محدودة، وبالتالي كان لا بد من توخي الحذر في اختيار الزمان والمكان المناسبين لاستخدامها.

» تنظيم القاعدة « نموذج الحرب من الجيل الرابع

القاعدة تنظيم غير تقليدي: برز هذا التنظيم بعد نشر مفهوم الحرب من الجيل الرابع، لكنه سرعان ما جسّد خصائص هذا النوع من الحروب. فهو تنظيم عابر للقوميات والأوطان، يعتمد على أيديولوجيا شاملة بدلًا من الولاء لدولة قومية. هدفه لا يتمثل في احتلال أرض أو هزيمة جيش نظامي، بل في تقويض النظام العالمي القائم، وخاصة النفوذ الأمريكي، من خلال خطاب عقائدي يدعو إلى "الجهاد ضد الكفار".

تغيير مفهوم ساحة المعركة: القاعدة حوّلت ساحة الحرب من جبهات واضحة إلى الأماكن العامة والحياة اليومية، حيث أصبح كل مكان هدفًا محتملاً. باستخدام أساليب غير متماثلة، مثل الهجمات الانتحارية واستهداف المدنيين، وغيّرت كذلك قواعد الاشتباك التقليدي. الإنترنت ووسائل الإعلام كانت من أدواتها الأساسية لنقل رسائلها وتجنيد عناصر جديدة عبر العالم، مما عزّز انتشارها وتأثيرها رغم افتقارها للقوة العسكرية التقليدية.

الحرب النفسية والتأثير الإعلامي: اعتمدت القاعدة على الدعاية والبروباغندا لبث الرعب والتأثير على الرأي العام الغربي، مستخدمة صورًا مروعة وعمليات إعلامية صادمة مثل بث عمليات الإعدام. هذه الأنشطة كانت تهدف إلى زعزعة الثقة، وإثارة الرأي العام، وإضعاف الروح المعنوية للخصوم. من خلال هذا الدمج بين الإعلام، والتكنولوجيا، والتكتيك غير المتماثل، أصبحت هذه المجموعة نموذجًا حيًا وفعّالًا للحرب من الجيل الرابع في العصر الحديث.

الإجراءات المضادة للحرب من الجيل الرابع والتحوّل نحو الجيل الخامس

الإجراءات المضادة

رغم استمرار الجدل حول سبل التصدي الفعّال للحروب من الجيل الرابع، اتفق الخبراء على ضرورة اتخاذ إجراءات رئيسية، أبرزها تأمين الجبهة الداخلية ضد التهديدات غير التقليدية، كالهجمات الإلكترونية التي قد تنفذها مجموعات صغيرة وتستهدف البنى التحتية الحساسة. كما شددوا على أهمية تطوير قدرات القيادات الوطنية، بحيث يمتلك القادة الجدد فهمًا استراتيجيًا للدور المحوري للتكنولوجيا، نظرًا لتحولها إلى ساحة مواجهة رئيسية في النزاعات الحديثة.

الحرب من الجيل الخامس:

مع بداية القرن الحادي والعشرين، برز مفهوم الحرب من الجيل الخامس، والتي تمثّل تطورًا جديدًا في أساليب الصراع، حيث أصبحت تشمل أدوات مثل الهندسة الاجتماعية، الهجمات السيبرانية، ونشر المعلومات المضللة. وقد ظهرت هذه الممارسات بشكل واضح خلال الانتخابات الأمريكية عام 2016، من خلال اختراق البريد الإلكتروني لحملات سياسية، وترويج الشائعات والأخبار المزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي، بل واستخدام جهات داخلية في الولايات المتحدة لدعم أجندات سياسية محلية.

أثار هذا النمط من الصراعات جدلًا حول المصطلحات المستخدمة لوصفه، حيث يستخدم البعض مصطلحي "الحرب السيبرانية" و"الحرب من الجيل الخامس" بشكل متداخل، بينما يفرّق آخرون بينهما؛ إذ تُركّز الحرب السيبرانية على الهجمات الرقمية المباشرة مثل استهداف البنية التحتية، أما الجيل الخامس من الحروب، فهو أوسع نطاقًا ويشمل الهجمات النفسية والثقافية والاجتماعية إلى جانب التقنية.

من أبرز الأمثلة المبكرة على الحرب السيبرانية، هجوم السلاح الرقمي Stuxnet في عام 2008، الذي نُسب إلى تعاون أمريكي–هولندي–إسرائيلي، وبتنفيذ من المهندس الهولندي إريك فان سابين. استهدف الهجوم منشآت نووية إيرانية عبر إدخال برنامج خبيث أدى إلى تخريب أجهزة الطرد المركزي دون أن ترصد أنظمة المراقبة الخلل. وقد تسبب هذا الهجوم في تعطيل البرنامج النووي الإيراني لمدة تُقدَّر بعامين، مما شكّل نموذجًا فعّالًا ومبكرًا لما يمكن أن تفعله الحرب الرقمية في البنية التحتية لدولة معادية.

الواقع الراهن (منتصف العشرينيات من القرن الحالي)

العالم الآن يُواجه صراعات عابرة للحدود، حروب طويلة الأمد، تصاعد التمرد والإرهاب وصراع مركب ومعقد تتداخل فيه التكنولوجيا، العقيدة، السياسة، والاقتصاد. كل هذه العناصر لا تزال تحمل سمات واضحة من الحرب من الجيل الرابع، رغم ظهور الحرب السيبرانية والجيل الخامس كامتداد وتطور لها.