لم يكن الكاتب والفيلسوف الكندي، مارشال ماكلوهان، يعلم أن نظريته التي تقول إن الوسيلة الإعلامية، في حد ذاتها، أهم من المحتوى، لأن تأثيرها يمس الحواس، أساسا، ستتجاوز مستوى الحواس، لتتحكم التقنية في العقول وتحجب الرؤية، كما حصل للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، في تقريره الأخير حول مشروع القانون المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، الذي اقترح فيه "إيجاد الصيغ الممكنة لإدماج المهنيات/ين المنخرطات/ين في ممارسات إعلامية وصحفية (متطوعات/ين وصانعات/صناع محتوى إعلامي) في مفهوم الصحفي(ة) المهني(ة) المتملك(ة) لأخلاقيات النشر والصحافة". ولفهم مغزى هذه التوصية، فإن المجلس المذكور، يعتبر أنه "أصبح من اللازم أن تعكس التمثيلية (في المجلس الوطني للصحافة) واقع السوق الإعلامية وتطور بنيتها، بما في ذلك: نشوء منصات رقمية مستقلة، وتداخل الأدوار بين الصحافي وصانع المحتوى."
يعتمد "خبراء" المجلس الوطني لحقوق الإنسان في هذه المقترحات على مراجع دولية، يمكن بسهولة الكشف كيف تم اقتباسها بعيدة عن معناها وخارج سياقها، لكن ما يهمنا هنا، هو مناقشة محاولة إدماج ما يسمى "صناع المحتوى" في مفهوم الصحافي المهني، وهو أمر غير مقبول، لأنه يخلط بين حرية التعبير وحرية الصحافة، وهما مفهومان مختلفان، رغم أن حرية الصحافة، هي تفعيل لحرية التعبير، في إطار مهني ومنظم. فحرية الصحافة هي ممارسة مهنية، تشتغل في إطارها مقاولات صحافية ومؤسسات إعلامية، ويقوم بها صحافيون، في عمل جماعي، وليس فردي منعزل، مؤطرين بتنظيم داخلي، مثل ميثاق التحرير وأخلاقيات الصحافة والقانون، وقواعد المهنة، يشرف على عملهم طاقم من رئاسة وسكرتارية التحرير، ورؤساء الأقسام أو الشعب... أي أن حرية الصحافة، تمارس في إطار جماعي ومنظم.
أما حرية التعبير، فإنها أوسع وأشمل، ولا تتطلب، بالضرورة، إطارا مؤسساتيا لممارستها، حيث يمكن لأي مواطن أن يمارسها، "متطوعا"، كما يحبذ تسميته المجلس المذكور، وقد يكون مثقفا أو ثرثارا، سياسيا أو نقابيا، فكل التعبيرات تدخل في حرية التعبير، التي هي حق من حقوق الإنسان، ينبغي حمايتها وصيانتها، كما تمت صيانة "الحلقة" في الثقافة الشعبية، و التي يمكنها أن تتخذ اشكالا جديدة، بفضل تكنولوجيات التواصل الحديثة، لكن كل هذه التعبيرات، لا يمكن أن تعوض حرية الصحافة، التي هي عمل جماعي منظم، ينجزه صحافيات وصحافيون، أجراء، داخل بنية مهنية، تتطلب التكوين والكفاءة، والالتزام والخضوع للمحاسبة، بناء على قواعد العمل الصحافي ومصادره وأخلاقياته.
مفهوم "صانع المحتوى"، أطلق في العديد من البلدان على أشخاص يمارسون الدعاية لسلع معينة، و هي مهنة منظمة بالقانون، لكن ليست هي المفهوم الذي استعمله المجلس الوطني لحقوق الإنسان، فقد خلقت الثورة التكنولوجية في التواصل، أوهاما وسرابا، سقط في فخاخه العديد من "الخبراء"، واستعملوا مصطلح "صناع المحتوى"، بشكل خاطئ، الذي لا يعني شيئا، لأنه فارغ من المحتوى، فالمحتوى قد يكون عملا صحافيا، فيطلق عليه إسم "الصحافة"، أو العلم، فيطلق عليه إسم "البحث العلمي"، أو الإبداع، فيطلق عليه إسم "الرواية" أو "القصة"، أو "المسرح" أو "الأغنية"، أو "السينما"، أوقد يكون تجارة للبحث عن زيادة عدد النقرات أو ثرثرة... "صناع المحتوى" مفهوم فضفاض، كما هو فضفاض مفهوم "المنصات المستقلة"، الذي ورد في تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان، إذ لا وجود لهذا المفهوم في الصحافة والإعلام، هناك فقط مفهوم "المهنية"، و التي قد نجدها في القطاع العمومي أو الخاص، طبقا لشروط منظمة، أهمها قدرة الصحافيين على النجاح، في إطار جماعي، على احترام قواعد المهنة مثل الموضوعية والنزاهة...
هناك مفهوم آخر هو "المؤثرون" الدين يدخلون، أيضا، في إطار حرية التعبير، لكن ما ينجزونه يفتقد للدقة والمصداقية، في أغلبه، حيث جاء في دراسة نشرتها منظمة اليونسكو، في نوفمبر 2024، أن 62 في المائة، من "المؤثرين"، لا يقومون بالتحقق من المعطيات، بشكل دقيق ومنهجي قبل مشاركة المحتويات، شملت الدراسة، التي هي عبارة عن استطلاع رأي أجري مع 500 مؤثر من 45 دولة، بمشاركة فريق بحث متخصص من جامعة بولينغ غرين ستيت في الولايات المتحدة. وإلى جانب أن التحقق من المعطيات التي يروجونها ليست ممارسة شائعة، يظهر الاستطلاع أن المؤثرين يواجهون صعوبة في تحديد المعايير الأفضل لتقييم مصداقية المعلومات التي يجدونها على الإنترنيت.
إن افتتان المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالتقنية، ليس معزولا عن السحر الذي خلقته تكنولوجية التواصل الحديثة، لدى الناس، وهو السحر الذي سيتضاعف تأثيره، بفعل الخُدَع الذي ينتجها الذكاء الاصطناعي، والتي ستكون من أكبر التحديات التي ستواجهها الصحافة، التي ينبغي أن تستعد لها، حيث سيتكاثر المتطفلون، سواء الذين يدعون الإنتماء لمهنة الصحافة، أو الذين يُنَظِرون لها من الخارج.