Monday 22 September 2025
كتاب الرأي

عمر مرابط: التربية على القيم

عمر مرابط: التربية على القيم عمر مرابط
ما يميز مؤسسة التربية والتعليم عن غيرها من المؤسسات الاجتماعية، كونها المؤسسة التي لا تقتصر وظيفتها في اكتساب المعارف عبر مختلف مراحل التعليم الأولي والابتدائي، والثانوي والعالي بل تتجاوزها إلى تحويل المعرفة المكتسبة إلى تطبيقات مهنية وممارسات عملية عبر مؤسسات التكوين المهنى والمدارس العليا ومراكز التكوين الاساتذة بل تتسع وظائفه لتشمل كل العوامل والنواحي الثقافية التي تؤثر في حياة الإنسان. 1. وبذلك يعتبر التعليم المحرك الأساسي، والمدخل الضروري لبناء الإنسان في مختلف أبعاده الاجتماعية الاقتصادية، القيمية الثقافية والحضارية فبفضل التعليم والتربية أصبحنا بشرا"، بتعبير ايمانويل كانط .
 
التعليم، اضافة الى ما سبق، هو المؤسسة الاجتماعية التي ترتبط بجميع المؤسسات الأخرى، حتى اننا لا نكاد نتصور فعالية ونجاعة تلك المؤسسات بدون الاستفادة من خدمات التعليم والتكوين والتدريب. وعلى الجملة يرتبط التعليم بحياة جميع الأفراد والمجتمعات، وبه يندمج الأفراد في المجتمع وبه تتحقق نجاعة الاقتصاد، وتتكرس القيم التي تشكل خصوصية المجتمع... وعلاوة على ذلك أصبح التعليم معيارا يتم بواسطته تصنيف المجتمعات في سلم التنمية.
 
على العموم وكتعريف اجرائي يمكن القول ان " التعليم يعتبر جهازا أو نظاما مستقلا نسبيا يتحدد الهدف منه في التربية والتكوين بكيفية منهجية لجميع أفراد المجتمع، إكساب ( وفق معايير رسمية ثابتة معارف والقيم الروحية والمهارات ومعايير السلوك التي يعتمد محتواها في نهاية المطاف على النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لمجتمع معين، ووفق إمكانياته المادية والتقنية "2.
 
اليوم اصبح من الضروري الاهتمام بالتربية على القيم واعتبارها من الأولويات التي يجب الدفاع عنها، لاسيما في خضم التحولات العميقة التي يعرفها العالم في ظل الحداثة والتحديث. لقد أصبحنا نعيش اليوم ضمن سوق عالمية موسعة ومتجانسة، يبرمج فيها البشر لتحقيق مصالحهم الذاتية من دون تنازل، ويتوقون فيها إلى تملك الأشياء نفسها، من دون أي اعتبار لاختلاف ثقافتهم ومزاجهم الشخصى. يبدو العالم اليوم أكثر تعلما وتواصلا وازدهارا من أي فترة تاريخية أخرى، فازداد متوسط العيش وان لم تكن تلك الزيادة عادلة وحدثت ثورة علمية جديدة عمادها الذكاء الاصطناعي والروبوت والطائرات المسيرة، ورسمت خريطة الجينات البشرية واستطاع الإنسان التحكم فيها وتوجيهها واستنساخها، واستكشف خبايا جديدة في الفضاء الكوني، واستغل الوقود المخزن في باطن الأرض عن طريق تكسير الحجر ..."؛ أي باختصار الزمن بحيث " تتقاسم كل شعوب الأرض، للمرة الأولى في التاريخ، حاضرا مشتركا، فغدا كل بلد جارا لكل بلدان العالم الأخرى، وأصبح كل إنسان يشعر بارتدادات أحداث تقع في أقصى الأرض "3 .
 
الا أن الحداثة والتحديث أديتا في الوقت نفسه إلى تمزقات على مستوى القيم الروحية والاخلاقية كما ذهب إلى ذلك شيلر عندما قال: "إن العلم والتقنية وتقسيم العمل والتخصص أوجدت مجتمعا يتكون من أفراد أكثر غنى غير أنهم يعانون فقرا روحيا، وتحولوا إلى مجرد شظايا"؛ بل إن المغالاة في تحقيق المصالح الذاتية وبدون تنازل عنها مهما كان الأمر - أدت إلى عدم الاكتراث لما هو أخلاقي بدعوى أن تلبية الرغبات والنزوات أسمى من أي شيء آخر بل والتنكر لكل إحساس جميل بداخلك ألفته وترعرعت فيه ومعه، قبل أن تكون مضطرا إلى التخلي عنه بفعل تأثير الحاجة والضرورة.

في هذا السياق الحداثي المتناقض إذن رغم كل إيجابياته، ترتبت عنه سلبيات وأزمات أخلاقية وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان رغم المواثيق والعهود والاتفاقيات التي تضمن للمرء أن يحيا حياة كريمة، فإن الانتصار على تلك الانتهاكات والأزمات الأخلاقية لا يتم إلا عبر صمود القيم الوطنية والإنسانية النبيلة والتربية عليها.
 
استوحيت فكرة صمود القيم النبيلة هذه من قراءتي لرواية الطيار المغربي على نجاب، خمس وعشرون سنة في سجون تندوف الرواية التي كشف من خلالها حجم المعاناة والآلام التي تعرض لها إلى جانب إخوانه الأسرى المغاربة في سجون الجزائر بتندوف أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها لا إنسانية، لكونها تندرج ضمن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والمخالفة كلية للمواثيق الدولية وبالأخص اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملات أو العقوبات القاسية اللا إنسانية المهينة المعتمدة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1984 ، وقبلها اتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب المؤرخة في 12 غشت 1949.
 
الرواية، كما أراها ليست مجرد سرد أو حكى لكل ما جرى من انتهاكات أو استجوابات مهيئة للطيار الحربي الكاتب على نجاب، أمام الضباط الجزائريين وأداتهم الانفصالية، وأمام الصحافة الدولية التي تعمل تحت الطلب أحيانا، بل وحتى أمام أنظار مبعوثى الأمم المتحدة وبعض من أعضاء الكونغريس الأمريكي... الرواية في اعتقادي عمل أدبى يدعونا إلى التفكير العميق في الإنسان كقضية وجودية وأخلاقية، إضافة إلى كونه قضية سياسية وما يترتب عنها من معاناة اجتماعية ونفسية.
 
كما تستحق هذه الرواية أن تدرج ضمن مقررات وزارة التربية الوطنية لما تزخر به من قيم الاعتزاز بالانتماء للوطن والدفاع عنها حتى في أحلك الظروف، إضافة إلى كونها وسيلة بيداغوجية للتربية على القيم وتقديم الدليل على أن التربية والتعليم هما المدخلان الأساسيان لصمود القيم في كل الوضعيات، بما فيها الوضعيات الأكثر إيلاما والأكثر حرمانا من أبسط شروط البقاء على قيد الحياة كتلك التي قاساها الطيار الحربي على نجاب هو والمختطفون والجنود الأسرى بمختلف رتبهم ووظائفهم، والأسرى المدنيين من أطفال وأسرهم، وكذلك الملابسات التي أحاطت باعتقالهم واختطافهم.
 
يقول على نجاب متحدثا عن انتقاله إلى التدريس بما يسمى مدرسة 12 أكتوبر في شهر أبريل 1980 حيث تم استقباله من طرف المسمى سيد أحمد البطل الذي استجوبه سابقاً في الرابوني ليقدم له المكلف بوزارة الصحة المدعو نعمة الجوماني الذي أخبره أن استقدامه إلى هذا المكان سببه الحاجة إلى أساتذة لتدريس اللغة الإنجليزية والفرنسية نظرا لإتقائه هو ومجموعة من رفاقه في السجن عدة لغات لاسيما الفرنسية والإنجليزية) ..... استحسن العرض المقدم له بعد استشارة صديقه في الأسر الملازم أورحو باعتباره يتميز بالذكاء والثقافة العامة، وبمعرفته بعقلية وسيكولوجية ما يسمى بالشباب الثائر، إضافة إلى كونه خريج المدرسة الوطنية للإدارة، وإتقانه ثلاث لغات هي العربية والفرنسية والإنجليزية بحيث أقنعه أورحو بضرورة قبول التدريس في تلك المدرسة لما يتيحه من فرصة مناسبة لإقناع التلاميذ، ومن خلالهم إقناع أسرهم بأن كل الأفكار المناوئة للمغرب التي دأب البوليزاريو على ترسيخها في عقولهم ما هي إلا اشاعات، ليس إلا".4
 
استطاع على نجاب ورفيقه في الأسر أورحو أن يكسبا حب تلامذتهم وتعاطفهم، ومن ثمة الانتصار على كل المؤامرات والتصرفات المشينة التي ما فتئت الإدارة والحراسة العامة الجزائرية ترتكبها في حقهما وفي حق التلاميذ كلما خالفوا أومر الحراسة العامة؛ غير أن جميع التلاميذ عبروا بشكل جماعي عن حبهم للأستاذين وتفضيلهما على غيرهم من الأساتذة الكوبيين والجزائريين.. ومثالا على ذلك الشهادة العميقة التي أدلى بها أحد تلاميذته بقوله: " أنا مختار نفع محمد مبارك العائد إلى أرض الوطن... أصرح أنني كنت تلميذكم بمدرسة 12 أكتوبر بمخيمات تيندوف من 1980 أي 1983 حيث كنت أتابع دراسة اللغتين الإنجليزية والفرنسية تحت إشراف الأسرى المغاربة منهم القبطان على نجاب، والملازمين أورحو محمد وعلي جوهر، وبوبكر أحمد، والقبطان كلاوي....
 
أشهد أننا تلقينا من الأستاذين نجاب وأورحو دروس اللغتين الإنجليزية والفرنسية. ولشد ما أثرت فينا أنا وزملائي في القسم تلك القيم الأخلاقية العالية لهذين الضابطين، وبالأخص القبطان نجاب الذي كان يدرسنا الإنجليزية بكيفية مستمرة تقريبا. أتذكر أيضا، إلى يومنا هذا، تلك النصائح التي يقدمها لنا بسخاء، رغم الظروف النفسية الصعبة، لقد استطاع أن يزرع فينا حب المغرب من خلال سلوكه وحسن معاملته وإخلاصه، كما أنه كان يطلب منا دائما أن نتسلح بالصبر والإيمان بالله. كان ذلك من أهم العناصر التي جعلتنا نتشبث بالآمال، وبأننا لا ننتمى إلى الجزائر، بل إننا صحراويون انتزعنا من الصحراء. أنا نفسي تم اختطافي وأسرتي وكذا (700) سبع مائة مواطن صحراوي رجالا ونساء، بمن فيهم البرلماني محمد علي في الهجوم على سمارة سنة 1979.
 
نعتبر أنفسنا سجناء مثلنا مثل على نجاب ورفاقه في علاقاتنا معه سواء داخل القسم أو خارجه، كنا دائما حذرين من أن يكتشف هذه العلاقة التي تجمعنا رجال أمن البوليزاريو والجزائر التي تراقبا عن كتب.
 
ذات يوم من سنة 1983، فوجئنا بغياب أستاذنا المفضل على نجاب، بسبب قرار من رجل الأمن الجزائري إبراهيم كردلاس الذي اقتحم علينا الفصل الدراسي وأمرنا جميعا أن نردد حين دخول الأستاذ على نجاب: "البوليزاريو ستنتصر" ثم غادر الفصل داعياً على نجاب للدخول؛ إلا أن المفاجأة الكبرى كانت أن لا أحد من التلاميذ ردد تلك الجملة أي "البوليزاريو ستنتصر " مما تسبب لكردلاس في إحراج شدید ترجمه انفلات أعصابه انفلاتا لما اقتنع أن رفضنا الجماعي ترديد تلك الجملة نابع من القيم التي غرسها فينا القبطان على نجاب. بعد هذه الحادثة مباشرة تم نقل أستاذنا إلى الرابوني، مما تسبب لنا في كثير من الألم والدموع . "5.
 
عندما نتحدث عن صمود القيم فإننا نتحدث من الناحية البيداغوجية، عن التعليم الذي يؤسس منظومة القيم من خلال عمليتي استبطان وتبنى المواقف والتصرفات التي تصدر عن المربى أو المعلم كما أن القيم تتميز عن المهارات المهنية واكتساب المعرفة بكونها ذات طابع استراتيجي ومستقبلى. كان لابد من انتظار ثلاثين سنة لندرك أهمية الأخلاق والقيم النبيلة التي غرسها الطيار الحربي علي نجاب في نفس الطفل مختار نافع محمد مبارك وزملائه بمدرسة 12 أكتوبر التي أدت إلى بناء شخصية قوية صامدة أمام كل الإكراهات والتحديات التي عرفها المعتقلون والمحتجزون في مخيمات تندوف الجزائرية. وبهذا المعنى يمكن اعتبار رواية على نجاب درسا بيداغوجيا بليغا ورسالة قوية على ان التعليم من خلال غرس القيم الوطنية والانسانية في نفوس الأطفال يتحول الى اداة وقوة التي تحمي الوطن وصموده أمام اعداء الوحدة الترابية المغربية ، وكذلك اداة لحماية الانسان من الآثار السلبية التي تصاحب الحداثة والتحديث والتي يمكن ان تكون مدمرة للقيم والأخلاق، كما تجعلنا قادرين على مواجهة مخاطر التكنولوجية التي أسرفت في تشيء الإنسان وتحويله إلى مجرد روبو وأداة استهلاكية لكل شيء، بما في ذلك ما هو مناف لطبيعتنا وصفتنا البشرية.
 
كما ان شهادة مختار نفع محمد مبارك ليست مجرد شهادة اعتراف في حق أستاذه الطيار الحربي وإنما هي شهادة تحيلنا كذلك إلى فلسفة التربية التي عليها اختيار الغايات المشروعة والمعقولة، او كما أشار إلى ذلك إيفان زيني في قوله "ما الفائدة من الإعلان عن الرغبة في تكوين المواطنين وغرس الديمقراطية في عقولهم ووجدانهم أو العمل على تحقيق الازدهار لهم إذا أغفلنا تحديد المعاني التي تحيل عليها هذه المفاهيم ؟ ... واذا لم نتساءل أيضا عن القيم التي نتطلع إلى نشرها واشاعتها ... إذا تعلق الأمر بتكوين الأساتذة فمن الواجب تسجيل أن هذه الملاحظات تهمهم بشكل حاسم ... على غير هذا الوجه أيضا سيجري فرض إيديولوجيات أو يتم إخفاؤها بدقة خلف التكنولوجيات، بل خلف تصور علمي زائف للديداكتيك".
 
إن هذه الشهادة تحيلنا أيضا الى كون تجربة على نجاب في التدريس كانت تعبيرا صادقا عن المواصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المدرس من قبيل حب الوطن والالتزام والمسؤولية والوفاء....
 
المراجع
1- V.Tourtchenko (La Révolution Scientifique et Technique et la révolution dans l'enseignement
2- نفس المرجع
3- زمن الغضب: بانكاج ميشرا ) منشورات عالم المعرفة، الكويت، أبريل (2023
4- نفس المرجع
5- Ali Najab: 25 ans dans les geôles de Tindouf. P:307/308
6- إيفان زيني مجلة الأزمنة الحديثة، العدد 2-3 أكتوبر 2011