Sunday 21 September 2025
كتاب الرأي

محمد براو: من أجل قراءة منصفة وسياقية للملكية المغربية

محمد براو: من أجل قراءة منصفة وسياقية للملكية المغربية محمد براو

تمهيد

في ظل التناول الإعلامي الدولي، خاصة في بعض الصحف الفرنسية، الذي يميل أحيانًا إلى اختزال الواقع المغربي في صور نمطية أو تحليلات سطحية، تبرز الحاجة إلى قراءة بديلة، رصينة، ومرتكزة على المعطيات الميدانية والمعرفية. النقد مشروع، لكن عندما يغيب عنه العمق والسياق، يتحول إلى تشويه غير بريء أو إلى تبخيس لجهود دولة تتحرك وفق خصوصياتها وتوازناتها التاريخية والثقافية.

منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش سنة 1999، شهد المغرب تحولات جوهرية مست مختلف مناحي الحياة: إصلاحات قانونية، تحديث للبنيات التحتية، مشاريع اجتماعية كبرى، وإعادة هيكلة للمؤسسات. كل هذه الخطوات لم تكن معزولة، بل جاءت ضمن رؤية إستراتيجية تروم تحديث الدولة دون المساس بأسسها الثقافية والدينية، وتحقيق التنمية المتوازنة دون التفريط في الاستقرار.

 

إصلاحات عميقة وتحولات ملموسة

خلافًا للصورة النمطية التي تروّج لها بعض المنابر، فإن المغرب عرف إصلاحات تدريجية وملموسة، طالت القوانين الأساسية مثل مدونة الأسرة، والنظام الصحي، والتعليم، والحماية الاجتماعية، والجهوية المتقدمة، والعدالة. كما تم اعتماد دستور جديد سنة 2011، عزز من صلاحيات البرلمان واستقلالية القضاء، وكرّس مجموعة من الحقوق والحريات.

على مستوى التنمية، شُيّدت مشاريع استراتيجية كبرى غيرت الخريطة الاقتصادية للبلاد، من موانئ ضخمة ومجمعات صناعية متقدمة، إلى مشاريع رائدة في مجال الطاقات المتجددة والنقل. هذه الإنجازات لم تكن فقط في البنية التحتية، بل رافقتها سياسات اجتماعية موجهة نحو تقليص الفوارق وتحقيق العدالة الاجتماعية.

الملكية، في هذا السياق، لم تكن عائقًا أمام الإصلاح، بل كانت عنصر توازن ورافعة للتغيير. فهي تؤمّن الاستمرارية، وتوجه الإصلاحات، وتجمع بين الرمزية الدينية والشرعية السياسية، في صيغة متفردة تحمي الهوية وتضمن الاستقرار.

 

نموذج هجين قائم على التوازن

النموذج المغربي لا يشبه النماذج الغربية الكلاسيكية للملكية البرلمانية، ولا يتطابق مع أنظمة الحكم المركزي الصارم. بل هو نموذج هجين، يجمع بين سلطة تنفيذية يمارسها رئيس حكومة منتخب، ومؤسسات دستورية مستقلة، وسلطة ملكية تشتغل ضمن منطق الضامن والمرجع، وليس المتحكم المطلق.

هذا التوازن، وإن بدا غريبًا لمن ينطلق من تصورات معيارية مستوردة، إلا أنه يعكس واقعًا تاريخيًا وثقافيًا وسياسيًا متجذرًا في المجتمع المغربي. لذلك، فإن فهم هذا النموذج يتطلب التفاعل معه من الداخل، وليس فرض نماذج خارجية عليه، أو إسقاط مقارنات غير منصفة.

الملك، بصفته أميرًا للمؤمنين، يلعب كذلك دورًا محوريًا في تأمين المرجعية الدينية المعتدلة، ومواجهة الفكر المتطرف، والحفاظ على وحدة المذهب والخطاب الديني، في سياق إقليمي هش ومفتوح على التوترات المذهبية والفكرية.

 

تحديات إعلامية وسؤال السيادة السردية

في السنوات الأخيرة، تكررت التوترات بين بعض وسائل الإعلام الفرنسية والمغرب، نتيجة تغطيات تميل إلى التعميم والتهويل وتجاهل الوقائع والسياق. هذا التوتر لا ينفصل عن العلاقة التاريخية المعقدة بين البلدين، حيث تتداخل المصالح مع الحساسيات، والقرب الثقافي مع النظرة الفوقية أحيانًا.

في مواجهة هذا الواقع، أصبح من الضروري أن يبني المغرب قوة سردية خاصة به، تعتمد على أدوات حديثة: صحفيون متمكنون من لغات العالم وأساليبه، إنتاج ثقافي وفكري قابل للتصدير، شبكات من المثقفين والخبراء القادرين على الدفاع عن الرؤية المغربية في المنابر الدولية، وتطوير دبلوماسية ناعمة ومهنية.

بالموازاة مع ذلك، يجب الاستمرار في تعميق الإصلاحات الداخلية، خاصة في الميادين الاجتماعية والقضائية والإدارية، وتعزيز الشفافية والمحاسبة، باعتبارها أفضل رد على أي تشكيك خارجي، وأداة لتقوية الجبهة الداخلية.

 

ختاما: النقد مطلوب… لكن بفهم وعمق

المغرب ليس دولة مثالية، لكنه ليس أيضًا دولة جامدة أو متقوقعة. هو بلد في حالة تحول مستمر، يخوض إصلاحاته بتدرج، ويواجه تحدياته بإرادة سياسية واضحة، ويبحث عن موقعه في عالم متغير دون التفريط في هويته.

الملكية في هذا المسار ليست عائقًا بل هي عنصر استقرار، وفاعل موجه للإصلاحات، وصمام أمان ضد الانزلاقات. والملك محمد السادس، من خلال اختياراته ومبادراته، لم يقد البلاد فقط باعتباره رمزًا، بل أيضًا كفاعل استراتيجي يسعى إلى بناء مغرب جديد.

النقد الإعلامي مرحب به، لكنه يفقد قيمته عندما يتحول إلى تشويه، أو عندما يُبنى على جهل بالسياق. من يريد أن يفهم المغرب، فعليه أن ينظر إليه من داخله، وأن يصغي إلى نبضه، لا أن يحكم عليه من وراء مسافة ثقافية أو أيديولوجية.

محمد براو ، خبير دولي في الحكامة، ومؤلف كتاب "الحكامة الجيدة على ضوء التوجيهات الملكية"