Sunday 21 September 2025
كتاب الرأي

عبد السلام بنعبد العالي: كيف تختلف علاقة المقامر بالمال عن البخيل والمبذر والزاهد؟

عبد السلام بنعبد العالي: كيف تختلف علاقة المقامر بالمال عن البخيل والمبذر والزاهد؟ عبد السلام بنعبد العالي

لا يطلب الفوز بقدر ما ينشد استمرار اللعبة

كنا في مقال سابق، أجملنا موقف عالم الاجتماع الألماني جورج زيميل من المال بعقد مقارنة بين ثلاثة أطراف: البخيل، والمبذر، والزاهد. يتبين من تلك المقارنة أن المال يتحول عند البخيل إلى غاية في ذاتها ومصدر للذة، بينما يظل أساسيا عند المبذر كما لدى البخيل، لكن على شكل الإنفاق لا الادخار. فما يهم المبذر ليس المال في ذاته ولا ما يوفره، وإنما فعل التبذير. ما يهمه ليس المال مترجما إلى أشياء، وإنما المال مترجما إلى أفعال تبذير. لكن البخيل والمبذر يلتقيان معا في خاصية اللامحدودية: المبذر لا ينفك يبذر، والبخيل لا ينفك يدخر. لا حدود يتوقفان عندها، ولا وضع يرتاحان إليه. إلا أنهما معا يتميزان عن الزاهد: فإذا كان البخيل يوقف حركته عند المال ذاته، والمبذر عند لحظة إنفاقه، فإن الزاهد الفقير يتجاوز المال برمته ليصل إلى عالم بلا وسائط مادية. هذه المواقف الثلاثة، على اختلاف دوافعها ونتائجها، تكشف أن للنقود قوة خاصة تمنحها موقعا مركزيا في الحياة الاقتصادية والنفسية للإنسان، وأن علاقتنا بها، سواء تمسكا، أو إهدارا، أو نبذا، هي علاقة تحدد ملامح وجودنا الاجتماعي والنفسي والأخلاقي.

 

الرهان والمصادفة

ماذا لو أضفنا إلى ثالوث زيميل هذا طرفا رابعا لا تربطه بالمال أي علاقة من تلك العلاقات التي سلط الضوء عليها المفكر الألماني؟ هذا الطرف هو المقامر الذي يكشف بعدا آخر في علاقة الإنسان بالمال: بُعد الرهان والمصادفة. فبينما يوقف البخيل المال عند ذاته، فيصبح عنده غاية، وبينما يوقفه المبذر عند لحظة إنفاقه، فيجعل اللذة في ضياعه، وبينما يتجاوز الزاهد المال برفضه أصلا فيبتغي العيش بلا وسيط، فإن المقامر يضع المال في حالة مغامرة، فلا هو يحتفظ به ولا هو ينفقه كما العادة، بل يرمي به لقانون الاحتمال.

يشارك المقامر كل واحد من الأطراف الثلاثة خاصية من خصائصه: فمثل الزاهد، يقضي على القوة الشرائية للنقود، ومثل البخيل، يخرجها من دائرة التبادل، ومثل المبذر، "يراقصها" في جذبتها، إلا أنه، مع ذلك، يخالف الأطراف جميعها. فإذا كان البخيل يعبد المال في ثباته، والمبذر في فنائه، والزاهد في إنكاره، فإن المقامر يعبده في احتماله.

يعيش المقامر تجربة مزدوجة: يحرر المال من وظيفته الاقتصادية، فلا يعود وسيلة لشراء أشياء أو تأمين حياة، بل يصبح "رأسمال للعبة". ثم إنه يدخل المال في لعبة المصادفة، فيعلق وجوده على الحظ، كأنما يجرد المال من قيمته الواقعية ليحوله إلى رمز للمخاطرة. فعند المقامر يصبح المال إمكانا خالصا، وعدا بالزيادة أو التلاشي. لذلك نراه يعيش لحظة توتر وجودي، حيث القيمة نفسها تدخل في لعبة المصادفة.

في القمار يتحول المال إلى شيء ثالث: فلا هو غاية، لأنه لا يحتفظ به ولا يقدس كقيمة في ذاته، ولا هو وسيلة، لأنه لا يستخدم لاقتناء سلعة أو خدمة، أو حتى لإشباع لذة استهلاك كما عند المبذر. إنه يغدو علامة فارغة تلقى في فضاء الاحتمال، يستعمل فقط من أجل أن يجازف به، وكأن وظيفته الوحيدة هي اختبار الحظ. المقامر يجرد المال من ماديته فيعيده إلى رمزية خالصة لا تربط الإنسان بالأشياء، بل بـ"المصادفة".

من هذا المنظور، فإن القمار يعري النقود ويكشف فراغها: لو بقينا داخل ثلاثية زيميل، ثلاثية البخيل والمبذر والزاهد، فرغم اختلاف هذه الأطراف في ما بينها، فإنها تظل داخل دائرة الاعتراف بالمال كقيمة. أما المقامر، فهو يكشف أن المال ليس إلا احتمالا للربح أو الخسارة. القمار يحرق كل شيء، فيجعل المال هو الشغف، هو الحلم، هو الجحيم وتخطي المقاييس.

 

مقامر دوستويفسكي

يجسد "مقامر" دوستويفسكي بالضبط وضعية المال وقد تحول من غاية ومن وسيلة إلى قدر يراهن عليه. وهي وضعية عاشها دوستويفسكي نفسه سنوات طويلة ولم يستطع التخلص مما كان يسميه هو نفسه "مرضا"، إذ لم يتخل عن القمار إلا عام 1871. لذا تشكل روايته تحليلا لا يرحم لإدمان القمار، في فترة كان الكاتب نفسه يعيش أزمته العميقة.

لا يرى بطل دوستويفسكي، ألكسي إيفانوفيتش، في المال شيئا يقتنى أو يكدس أو يستهلك، بل مجرد شحنة وجودية تلقى على طاولة الروليت. نقرأ في الرواية: "أما الربح نفسه، فهو أمر غير ذي أهمية. عند جمع حصيلة ما ربحه، يكون على الرجل النبيل أن يطلق مزحة تجاه أحد جيرانه. يمكنه المقامرة بما ربحه، بل ومضاعفته، ولكن بدافع الفضول فقط، لكي يتبين حظوظه، لكي يخوض في تركيبات جديدة، وليس أبدا بدافع الرغبة الدنيئة في تحقيق ربح. عليه ألا يرى في صالة القمار سوى تسلية".

لا يحلم إيفانوفيتش بالمال في ذاته، بل بما يعد به، أي باللحظة الانفعالية حيث يبلغ التوتر أقصاه. إنه يرى في المال نبض قدر: قطعة نقدية تدور كما تدور عجلة الحظ، كأنها مرآة للعالم نفسه وقد صار محض احتمال. يعيش المقامر المال بوصفه نشوة تدميرية: حين يربح يندفع ليراهن من جديد، وحين يخسر يجد في الخسارة نوعا من التطهير. إنه يكون دائما على التخوم، بين-بين، في حال تشكك لا ينقطع. في القمار يصبح الوجود نفسه رهانا وتتحول الحياة إلى تجربة متواصلة للتخوم التي لا تسمح لا بالاطمئنان ولا بالانقطاع.

على هذا النحو، فالمقامر لا يختلف فقط عن البخيل والمبذر والزاهد، بل يكشف، بصورة مأسوية، الوجه العاري للنقود نفسها، فهي لا تحمل معنى إلا باللعبة التي تدخلنا فيها. لو كان المقامر يستهدف شيئا بعينه، الربح على سبيل المثل، لتوقف عند اللحظة التي يظفر فيها بما أراد. لكنه، كما نرى في مقامر دوستويفسكي، يربح ويعود إلى الطاولة، يخسر ويعود من جديد. هذا يعني أن الغاية ليست في المال ذاته، ولا حتى في الربح كتحقق مادي. المقامر يسعى وراء الانفعال الخالص، وراء تجربة التوتر القصوى التي يضعه فيها المال حين يعرض للمصادفة. الغاية إذا ليست خارج اللعبة، بل في استمرارها. وكأن كل ربح أو خسارة ليس إلا ذريعة لمواصلة اللعب.

 

اللا غاية

سبق أن قلنا إن ما يجمع البخيل والمبذر في علاقتهما بالمال هو اللامحدودية: فالمبذر لا ينفك يبذر، والبخيل لا ينفك يدخر. يمكن أن نقول الشيء ذاته عن المقامر: غاية لعبه هي اللا غاية: الاستمرار في تأجيل النهاية، في تكرار اللحظة التي لا تكتمل أبدا.

يذكرنا هذا الاستمرار في تأجيل النهاية بما كان جيل دولوز قاله عن شكل آخر من الإدمان، إدمان الكحول، مبينا أننا نخطئ عندما نعرف المدمن بأنه الشخص الذي لا ينقطع عن تعاطي الكحول. المدمن هو ربما على العكس من ذلك تماما. إلى حد أن في إمكاننا القول إنه ما يفتأ يكف عن معاقرته. فهو إذن أقرب إلى الانقطاع منه إلى المواصلة. إنه يثابر على الانقطاع، دوما بمحاذاة الكف والتوقف. يستعمل دولوز عبارة موفقة إلى حد بعيد، للدلالة على هذه العلاقة بالحدود والتوقف والانقطاع، وذلك عندما يقول: إن المدمن يشرب دوما الكأس ما قبل الأخيرة. فما يهمه بالضبط ليس آخر كأس، وإنما الكأس ما قبل الأخيرة، لأنها هي التي "تحقق" له التوقف والاستمرار في آن. كل كأس يملأها، يملأها باعتبارها الكأس ما قبل الأخيرة. كل كأس هي تماس التوقف، كل كأس هي توقف ناقص واحد. إنه لا يبلغ الحد الأخير، وإنما ما قبله على الدوام.

هذه هي حال المقامر الذي لا ينفك يربح ولا ينفك يخسر. وهنا يلامس شيئا قريبا من الميتافيزيقا السلبية: إنه لا يسعى إلى امتلاك المال، بل إلى اختباره وهو يتبخر ويضاعف نفسه في آن. إنه يفتش عن الدهشة الوجودية التي يخلقها احتمال أن يربح كل شيء أو يخسر كل شيء في لحظة. فكأنما يلعب بمصيره، بوجوده هو. يغدو هو المال الذي يراهن به، يراهن بنفسه.

ولعل هذا ما يجعل تجربة المقامر تحمل ملامح دينية معكوسة. فإذا كان البخيل يعبد المال كإله ثابت، وإذا كان المبذر يذبحه قربانا للحظة، وإذا كان الزاهد يكفر به، فإن المقامر، في المقابل، يعبده كإله متقلب، إله الاحتمال واللايقين، الذي لا يكف عن إغوائه.

اللعب

المقامر إنسان لعوب Joueur. واللعب كما نعلم يتغذى من التكرار والاحتمال. من هذا المنظور فالبخيل لا يلعب، هو أسير قاعدة جامدة. والمبذر يلعب لعبة لحظة وحيدة، لعبة تنتهي سريعا باستهلاك المال. والزاهد يخرج من اللعبة برفض قواعدها جملة وتفصيلا. أما المقامر، فهو الغارق في اللعبة ذاتها: المال بالنسبة إليه ليس غاية ولا وسيلة، بل أداة للدخول في فضاء اللعب، حيث الرهان والتوتر والاحتمال والتشكك هي القوانين الوحيدة.

المقامر إذن لا يطلب الفوز بقدر ما ينشد استمرار اللعبة. الربح والخسارة ليسا إلا محركين لإعادة الدورة: إنه يلعب دوما اللعبة ما قبل الأخيرة: إذا ربح عاد ليخاطر، وإذا خسر عاد ليحاول حتى إن تطلب الأمر الاستدانة. اللحظة الوحيدة التي يخشاها المقامر هي لحظة التوقف، أي خروج اللعبة من ذاتها. هنا يتقاطع المقامر مع تصور نيتشه لـ"اللعب الكوني": اللعب ليس بحثا عن نتيجة، بل انغماس "سيزيفي" في العود الأبدي حيث المعنى في الحركة ذاتها لا في ما تؤدي إليه.

رغبة المقامر ليست في الخروج من اللعبة منتصرا، بل في أن تدوم اللعبة، أن يعاد طرح السؤال نفسه بلا جواب نهائي. من هنا يصبح المقامر نموذجا كاشفا: إنه لا يطلب الخلاص في المال ولا يتطهر بإنكاره، بل يعيش في قلب لعبته التي لا تنتهي، إنه لاعب أبدي في لعبة الاحتمال. إنه صورة للإنسان وقد صار وجوده نفسه رهانا دائما في مواجهة الاحتمال.

أليست هذه بالضبط هي صورة الإنسان في مجتمعاتنا المعاصرة؟ لا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا أهمية هذا الطرف الرابع في تلك المجتمعات، ليس لكون القمار قد شاع فيها وتمأسس وترسم، بل ربما لأن المقامر لم يعد اليوم فحسب ذاك الذي يلج صالة القمار، ففي ضوء الاقتصاد الرمزي الحديث، وفي خضم أسواق المال وحمى المضاربات، يبدو أن العالم كله صار مقامرة كبرى.

عن مجلة:" المجلة "